نمط المجتمع
|
الأوقاف: نحو أخونة الدولة
... والمجتمع
محاضرة ألقتها الدكتورة نائلة
السليني
أستاذة الحضارة في جامعة سوسة*
تنشر بترخيص منها:
مثل تونسي نتداوله ولم ندرك
دلالته سوى هذه الأيام، فكم رددنا قولة " الرزق اللي ماتت امّاليه" ،
ونعتقد انه يلخّص سياستنا الاقتصادية، سياسة تنبش في قمامة الماضي بحثا عن حلول
ترقيعية لا غير. "غزوة الأوقاف" تقارع أفكارنا ، وذلك بتقديم قراءة
واحدة اغترّ بها الإخوان في تونس،
وأعلنوها حربا ضارية على كلّ رافض. بل انبرى شيخهم، كعادته، يوزّع صكوك التوبة
التي يبدو أنها لن تنضب وليس له من همّ سوى تقسيم تونس إلى دار كفر ( دار حرب)
ودار إسلام.
لماذا التشبث بخيط تهرّأ؟ ولا يعلم إلاّ الله
متى سينقطع، هو خيط امتلاك الحقيقة، واعتبار المحاور معارضا جاهلا، شرسا، عدوّ
الإسلام ويريد الشرّ للبلاد والناس جميعا، بل هو كافر ومنافق يحقّ عليه حكم المشرك
أو المرتد.
وفي هذا السياق نسأل: هلاّ
غادر "إخواننا" من متردّم؟
نقاط الخلاف
حبّذا لو خرجوا للحظة عن طاعة إمامهم ليستمعوا ،
من غير غرور أو صلف، إلى حديث آخر يختلف عمّا تلقّنوه، حديث ينبّه إلى نقاط أخرى
أهملتها مقالة حزبهم وحاولت وأدها، لكنّ التاريخ لا يموت ويظلّ كامنا في ثنايا
الذاكرة الجماعية، نقاط خلافية جمة تجمع بيننا في قضية الأوقاف، وهي تندرج تحت
سؤال وجودي ما فتئ يتعاظم في وجداننا: لماذا هذا الحرص على النبش في مقابر الذاكرة
بحثا عن نموذج ننصّبه قبلتنا؟ وفي هذا الظرف بالذات، ظرف ينتظر منّا جوابا عن
مشكلة الإرهاب والبطالة والإفلاس، لماذا نبحث دوما عن شماعة نتكّئ عليها حتى
نحمّلها أخطاءنا ومساوئ حوكمتنا؟
لماذا هذا التعنت في التمسك
بتبريرات بانَ عُقمها،واقتنع المجتمع بأنّها أسباب واهية لم يعد لها من دور سوى
تفرقة الناس.
نقاط أساسية تفرض نفسها ونحن نخوض معركة هذه الغزوة،
فليس بخفيّ أنّ الأوقاف مؤسسة ذات طابع مؤسساتي، متأخرة في استحداثها، إذ يكفي أن
نفتح كتاب الأحكام السلطانية والولايات الدينية للماوردي لندرك أنّ هذه المؤسسة
غير موجودة في الولايات السلطانية في القرن السادس للهجرة/ الثاني عشر ميلاديا.
وإن ذكرنا هذا الكتاب فلأنّه وثيقة هامّة تعنى بالنظر في الأصول الشرعية لمؤسسات
الخلافة.
التعريف الفقهي للأحباس
وليس بخفيّ أيضا أنّ القدامى
كانوا يعملون بالصدقات والهبات والوصايا والحبس، ويدرجونها في مشغل المواريث في
معناها العامّ. وإن كان لنا أن نعرّف الأحباس فقهيا لقلنا: هي حيلة يلجأ إليها
صاحب المال إمّا لأجل الصدقة الجارية "في سبيل الله" والجهاد، كأن يحبس
خيلا أو رقيقا؛ أو لغاية بقاء اسمه بعده، وذلك عن طريق إطعام المساكين وأبناء
السبيل وإيوائهم؛ و في أحيان كثيرة تمثّل الأحباس سبيلا إلى إخراج البنات الإناث
من عقارات يريدها الأب حكرا على أبنائه الذكور من بعده.
وقد يكون العكس كأن يحبس دارا
من دوره لبناته المطلّقات. ولا يفوتنا التنبيه أنّ جميع هذه الأحكام تندرج ضمن
مشغل الوصية الذي يسعى أصحاب الفرائض قديما وحديثا إلى تهميشه وتجاهله.
وثبت في التاريخ أنّ الحبس لم
يتحوّل إلى مؤسسة سلطانية سوى في القرن التاسع عشر مع محمد علي في مصر. ومنذ ذلك
الحين تعاظم ليتحوّل إلى أوقاف ويَلتَهِم كلّ ما يمسّه من قريب أو بعيد. وحتى
يكتسب شرعية أسقطوا عليه من القرآن الكريم آيات عامّة في معانيها، وقالوا إنّها في
الأوقاف. من ذلك قوله تعالى "يا
أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون” الحج
22/77. ولا يهمهم ما اعتبرته مصنّفات التفسير من أنّ هذه الآية من قبيل الندب لا
غير. (والندب لغة هو الدعوة اللطيفة)
ولسائل أن يسأل: لماذا نعتبر
اليوم الأوقاف سبيلا إلى "أخونة" الدولة والمجتمع؟ ولم نقل أسلمة.
والجواب واضح إذا ما استندنا إلى المنطلقات التاريخية الأنفة الذكر: فالإسلام ترك
للإنسان حرية التصرّف في رزقه وفي كيفية تصريفه إمّا عن طريق الهبة في شكل صدقة أو
عن طريق وصية لأنّه يستأمن أشخاصا دون غيرهم على رزقه.
الأحباس ليست المبرات في
العالم الغربي
انبرى خبراء الإخوان في وزارة
الشؤون الدينية، مهللين ، وكأنهم عثروا على صيد عظيم، مستشهدين بما هو موجود في
أمريكا أو بريطانيا من مؤسسات خيرية، واعتبروها شكلا من أشكال الأوقاف ودعامة
استثمار في اقتصاد البلاد. وفي هذه النقطة بالذات نقول لهم: كفى مغالطات.. كفى
انتقائية.. كفى استهانة بمشاعر الناس.
اليوم صارت أمريكا وبريطانيا مثالا يحتذى ؟
أليست هذه الدول علمانية؟ والعلمانية كفر؟ لماذا تسمحون لأنفسكم أن تتغافلوا متى
تشاؤون عن مفهوم الدولة الحديثة التي تنضوي إليها الدول الغربية، دولة قطعت مع
سلطة الكنيسة منذ قرون، وانتظمت إلى مفهوم المواطنة الشاملة في أرقى تجلياتها.
أنتم تعلمون جيدا أنّ هذه المؤسسات التي تعمل في
الغرب لا تنطلق من قاعدة عبادة المال، وإنما تنضوي إلى قوانين صادرة منذ القرن
التاسع عشر تنظّم سبل العمل وشفافية المصادر المالية التي تغذّيها. كما تعلمون أنّ
فلسفة هذه المؤسسات التشجيع على البحث العلمي، والإعانات الخيرية نتيجة كوارث
طبيعية قد يعيشها المجتمع الدولي. وعلى هذا الأساس، فهي مؤسسات مقننة وخاضعة
لرقابة مالية من طرف الدولة. فلا علاقة إذن بين الأوقاف في دلالتها الشرعية ، وكما
هي مفروضة في كثير من البلدان الإسلامية، ونظام المؤسسات المسهم في نموّ المجتمع
والفكر.
لماذا دعوناها سياسة أخونة
وليس سياسة أسلمة
لهذا قلنا إنها سياسة أخونة،
فمشروع الإخوان الأصلي يقوم على دولة الخلافة، والأوقاف بدعة أنشأها العرب في عصر
الانحطاط، حتى يضع السلطان يديه على جميع مكوّنات السيادة سياسية كانت أو دينية أو
اجتماعية. وبفضلها يمكن المحافظة على هذه البنية الهرمية التي تميّز المجتمعات
الإسلامية عن غيرها من المجتمعات، ورأس الهرم وليّ الأمر الذي يعتبر كلّ مخالف له
من أهل الزيغ والكفر، كيف لا وقد تسربل بسربال الله.
الأوقاف واحدة تنطلق من فكر
واحد
نكاد نقول إنّ نظام الأوقاف
واحد في جميع الدول التي تعتمده. وعلى هذا الأساس فلا يمكن بأيّ حال أن يتصوّر
الإخوان في تونس نظاما في الأوقاف يغاير ما هو معمول به. ولهذا السبب استأنسنا
بالهيكلة الإدارية لوزارات الأوقاف بالدول العربية ، وهي تتكوّن من الإدارات
التالية : الزكاة والسؤال هل سيفسّرون الأداءات على أنّها زكاة؟ أم سيسنون قانون الزكاة
المفروضة؟ إدارة الحج والعمرة وتكوين الوعاظ والأئمة والدعاة، ولا تضاربَ بين هذه
الإدارات ووزارة الشؤون الدينية بما أنّ هذه الأخيرة ستتمتع بإضافة 25 مليار في
ميزانية سنة 2014؛ وما في ذلك إلاّ دعم مفضوح للمشروع الإخواني. أمّا إدارة
السياحة والآثار الإسلامية وإدارة الصحة والمستشفيات وإدراة التعمير وإدارة القروض
البنكية فهي مؤسسات ستضرب كيان الدولة في الصميم؛ وكذلك الأمر بالنسبة إلى إدارة
التغطية الاجتماعية. في حين أنّ إدراة الفتاوى فهي طريق لمأسسة الفتاوى التي ستصير
قادرة على مراجعة جميع المكتسبات في تعارضها مع المقاربة الفقهية...
بقي الحديث عن إدارة التعليم
فحدّث ولا حرج، إذ من مشاغلها بناء المعاهد والكليات والسهر على نظافتها، وتعيين
من يدرّس بها والمصادقة على برامجها التعليمية، وضمان المنح المسندة إلى الطلبة.
وهنا ننبّه إلى خطر التداخل بين هذه الإدارة المتعاظمة وبين وزارة التربية القومية
ووزارة التعليم العالي، والإنعكاسات التي ستنتج عن هذا القرار من ذلك سحب البساط
عن التعليم المدني. ولا يفوتنا في هذا السياق التنبيه إلى أنّ جامعة صفاقس أعلنت
عن إحداث ماجستير في المالية الإسلامية، ولن يبدأ التدريس إلاّ في السنة القادمة، كم
لا يفوتنا التذكير بما قام به إمام جامع الزيتونة عندما أعلن عن جامعة للزيتونة
اقتداءا بالأزهر. و نذكّر أيضا ما تواتر من أنباء من أنّ معلوم التسجيل بالنسبة
إلى الطلبة في ماجستير المالية الإسلامية قد حدّد ب 15 ألف دينارا. وجميع هذه
الإشارات تؤكّد أنّها بمثابة "الحصيرة اللي تسبق الجامع"، وأن الأوقاف
قد هيئت لها أرضية قانونية من قبل وزارتي التربية والتعليم العالي،ولن يقدر على
دفع هذا المعلوم إلاّ من تبنته الأوقاف واحتضنته.
الجراب هل تم إفراغه؟
سؤال نوجّهه إلى الإخوان
بتونس: ماذا بقي في جرابكم؟ حتى تشغلوننا به في القادم من الأيام؟ هل يحتوي جرابكم
على ديوان المظالم؟ وعلى ديوان العطاء سيما أنّكم بدأتم في تطبيقه على أتباعكم (المال
السياسي) ولم لا بيت مال المسلمين التي ستهيّء المناخ المناسب للخليفة القادم. وما
رأيكم في المطالبة بنظام الحسبة؟ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد طالب به
بعض رؤوس جمعيات خيرية بالبلاد، والجميع يعلم أنّها تسبح في فضائكم. ما رأيكم أيضا
في تنصيب محاكم شرعية فنستغني عن وزارة العدل؟ الخ...
استنادا إلى جميع ما بيّناه
يمكن أن نقول:
إن في بعث الأوقاف من قبرها
حيلة حتى يُرجِع الإخوان الشريعة من الشباك بعد أن خرجت من الباب، ولو تمّ إقرارها
فستصير أمّ المؤسسات، بيدها الحلّ والعقد في جميع شؤوننا الاقتصادية والسياسية والقضائية
وخاصة الاجتماعية، وعلى يدها سينجح المشروع الإخواني الذي يتوارثه مريدوه جيلا عن
جيل. إنّها المؤسسة التنين لأنّها لن ترتوي ولن تشبع حتى تلتهمنا جميعا
وتعتصرنا ثم تعيد عجنها من طين إخواني طيّع.
**نائلة السليني باحثة سبق
لها أن حاورت الدكتور الشيخ راشد الغنوشي على شاشة التلفزيون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق