قرأت لكم
|
عبد اللطيف
الفراتي
اتحاد الشغل
ماضيا وحاضرا
تونس/ الصواب
/26/12/2013
الإتحاد
العام التونسي للشغل الذي بادر بتأسيسه على أنقاض النقابات المستقلة للجنوب من
صفاقس فرحات حشاد رفقة الحبيب عاشور وعبدالعزيز بوراوي وغيرهم في 20 جانفي 1946 ، التحم تاريخه بتاريخ البلاد، وكان حاضرا في
كل المعارك السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنقابية التي عرفتها البلاد
انطلاقا من أحداث 5 أوت بزعامة الحبيب عاشور إلى معركة تثبيت الانتقال الديمقراطي
عبر الحوار الوطني في 2013 بعد أن دخلت البلاد إلى زقاق ضيق كاد يودي بتجربتها
الديمقراطية الوليدة .
لذلك قرأنا
بكل اهتمام القطعة التي كتبها أحمد الهرقام المثقف الأديب والصحفي الأريب
والديبلوماسي السفير حول كتاب مهم صدر مؤخرا وهذا نص المقال :
أضواء خفية على رسالة الإتحاد
بقلم أحمد
الهرقام
قلما قرأت
وسمعت عن منظمة إلتحم تاريخها مع مسيرة وطن وتطور شعب ومعاناة نخبة، مثلما عاش
وناضل الإتحاد العام التونسي للشغل في تونس وقد خامرني هذه الأيام شعور غريب وأنا
أقرأ كتاب الأستاذ سالم المنصوري عن (رسالة الإتحاد العام التونسي للشغل
:1946-1956) ( دار الجنوب).
فهو كتاب جاء
بمثابة التاريخ الذي يسرد الأحداث ، وهو كذلك مزيج من التحقيق العلمي لوثائق نادرة
صدرت في شكل مقالات وإفتتاحيات في جريدة " صوت العمل" التي أسسها سنة
1947 الزعيم فرحات حشاد واستمر في إحيائها وتنشيطها من بعده الأستاذ أحمد بن صالح
عندما تولى مسؤولية الإتحاد حتى سنة 1956.
لكن الملفت
في هذه الوثيقة الكتاب، هي الفترة الزمنية
المفصلية الواقعة بين 1947 و1956 في تاريخ تونس. فهي فترة اليقظة الوطنية لشعب
عانى من ويلات الحرب الكونية وفتك غلاة الإستعمار في تونس. وشهدت صمود ونضال مختلف
طبقات الأمة وإصرارها على نيل الإستقلال وبناء الدولة الحديثة.
ومما يتيحه
هذا الكتاب هو الفرصة النادرة في جمع
وتصنيف نصوص كتبها نخبة من خيرة شباب الأمة في ذلك الوقت، جاؤوا من مختلف الطبقات
الإجتماعية ومن مختلف جهات البلاد ليس في لغتهم أية لكنة إيديولوجية أو إنحراف
طبقي، هدفهم تحرير الوطن وإنضوائهم تحت راية الإتحاد ليس فيه سوى السعي للصالح
العام.
ولأن مقدمة
الكتاب كانت مقتضبة بقلم الأستاذ أحمد بن صالح فقد وجدت فيه على غير ما كنت أتوقع
توجها، إلى الحديث عن المستقبل عوض تفصيل وشرح أحداث الماضي وجدته يتحدث عن منظمة
أعبائها وطنية أكثر منها نقابية ومهنية.
وهو أمر يدفع
للقارئ الباحث إلى التأمل في "رسالة
الإتحاد" عبر الكفاح وتضحياته ثم الإستقلال وعثراته وبعد ذلك ميلاد الدولة
الوطنية وأزماتها التي كانت في نفس الوقت أزمات الإتحاد.
يقول بن صالح
في مقدمته : " لم نتمكن هكذا من بلوغ
درجة السمو والإندفاع إلى صلب المشاكل والإستعداد للمستقبل. لقد توقف النظر حتى
أنه لم تعد هناك رؤى فسيحة وشاملة لفرط من غمسنا فيه من خلافات وانقسامات داخلية
وتناحر مقيت بين العناصر والأطراف الماسكة للقيادة في حين أنه كان علينا أن نعطي
الأولوية للدراسات والمخططات المستقبلية مثلما يجب أن يكون عليه حال أيّ بلد حديث
النشأة..."
هذه النبرة
الناقدة الفاحصة أكدت لي أن تاريخ الإتحاد هو أيضا على علاقة وطيدة بمستقبل البلاد
والعباد، وهو ما يجعله، في نظري ، أمام كل مرحلة وكل أزمة يواجه الخطر الداخلي
والخارجي في الجسم النقابي وفي جسم المؤسسة وهنا أعني بذلك خطر الأدلجة والتحديات
الطبقية والإنزلاق إلى مهاوي الصراع على الحكم والشعبوية المفرطة.
ولقد تأثرت
عندما رأيت مؤخرا شيخ السابع والثمانين
أحمد بن صالح وهو معتكف في بيته المتواضع بدون رياش ولا خدم، مصرّا على العيش
الكفاف في كبرياء صامت ولكنه عندما يتحدث بصوته النحاسي القوي الإيقاع، يدفعك دفعا إلى التفكير في
المستقبل وكأنه لم يعش الماضي بكل محنه وأهواله، فلا تجد في قوله ضغينة على أحد ولكن
مرارة مكتومة تلفها روح عالية من الظرف والدعابة.
وعند إستعراض
الجزء التحليلي من الكتاب يتوقف الأستاذ المنصوري عند مختلف المحطات التي واكبت
مسيرة الإتحاد ورجاله من خلال النصوص الواردة في " صوت العمل" فنراها
تشارك بالرأي والموقف في مسيرة الحزب الحرّ الدستوري وفي مراحل الكفاح ضد
الإستعمار ، وفي التدقيق عند أهمية المفاوضات مع فرنسا ومراحلها المختلفة لنيل
الإستقلال التام.
ولكن الملفت
للإنتباه هو التعريج المستمرّ في مختلف النصوص على الصراع اليوسفي البورقيبي وما
صاحبه وما تلاه من أحداث مؤلمة في البلاد ومن تصدع بيّن في المجتمع ترك جروحا لم
تندمل من بعد أكثر من نصف قرن.
أما الصراع
الثاني الذي أهتمّ به الباحث في الكتاب فهو صراع القيادة داخل إتحاد الشغل والدور
الذي قام به الرئيس بورقيبة لتطويع قيادة الإتحاد بإتجاه الإنسجام التام مع خيارات
الدولة الناشئة فكان " الإنقلاب" على قيادة بن صالح للإتحاد وتعويضه
بالمرحوم أحمد التليلي ثم بعد ذلك المرحوم الحبيب عاشور.
يقول الرئيس
بورقيبة في إحدى خطبه سنة 1956 أمام جمع
من عمال الملاسين " ... يجب علينا أن نتخلص من العناصر المفسدة التي من شأنها
أن تفسد وحدتنا لأن وحدتنا تفرض علينا ذلك وتفرض علينا الإقدام على التخلص من
العناصر الفاسدة، لقد ظهر أخيرا عنصر في الطبقة الشغيلة يجب التخلص منه وفعلا تخلص
منه النقابيون أنفسهم ..."
ويجيبه بن
صالح في موضع آخر " ... نحن قادرون على التغلب على أهوائنا الشخصية رغم
شبابنا وبودنا لو يتغلب البعض من المسؤولين على أهوائهم الشخصية أيضا، ويجب أن
يعتقد هذا الشعب بأن هذه التربة التونسية قادرة على إخراج أناس نزهاء قادرين على
تحمل المسؤوليات، وسيعلم الجميع من هم النزهاء..."
لم يقتصر
إهتمام الأستاذ المنصوري في فحصه لرسالة صوت العمل والإتحاد العام التونسي للشغل
على الشأن النقابي أو التونسي الصرف، بل شمل ما إهتمت به الصحيفة من قضايا ونضالات
حفل بها ذلك العصر، فتجد أخبار ومواقف من حرب الجزائر وأزمات قناة السويس وجهاد
شعوب المغرب العربي في سبيل الإستقلال والوحدة.
وفي رحلة
مفيدة تأخذك مقالات الجريدة الواردة في الكتاب إلى الإطلاع على وجدان التاريخ المعاصر
في بلادنا وتضحيات الرجال الذين وضعوا دوما مسيرة الإتحاد العام التونسي للشغل على
مفترق المراحل الحاسمة من تاريخ الشعب
التونسي ومصيره.
واليوم وبعد
أكثر من ستين عاما نرى كيف تدفع الأحداث الجسيمة بنفس هذا الإتحاد إلى التصدي
للمسؤولية فلا يتردد في دخول المعمعة والمشاركة في إنقاذ البلاد وإنتشال الدولة
الهاوية إلى القاع حتى أنك تحتار في تحليل المواقف وفهم الرجال لأن أهل النقابة
تحولوا إلى رجال دولة يديرون المفاوضات ويقترحون الحلول والبدائل في حين أهل الحكم
يرقصون على السلالم ويغيرون جلودهم وتصريحاتهم ومواقفهم في مشهد يدعو أحيانا إلى
الشفقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق