السبت، 28 ديسمبر 2013

خالدون : مصطفى المصمودي رجل فعل الكثير لهذا الوطن


شخصيات رحلت 

أربعينية الدكتور مصطفى المصمودي
بقلم عبدالسلام القلال – المحامي
كلمة ألقيت في حفل أربعينية الفقيد يوم 29 نوفمبر في مدينة العلوم

          نجتمع اليوم في خشوع حول روح الفقيد صديق الجميع المرحوم الدكتور مصطفى المصمودي في أربعينية وفاته وقد وفاه الأجل المحتوم يوم 26 سبتمبر 2013،يومها فقدنا أخا عزيزا، عاشرناه أكثر من نصف قرن وقد عرف بالاستقامة ودماثة الأخلاق في معاملاته ،والتواضع والتفاني في العمل والانقطاع له، من أجل الوطن والصالح العام.
          كان رحمه الله منذ شبابه مناضلا دستوريا وفيا صادقا متشبعا بالفكر البورقيبي وقد تحمّل العديد من المسؤوليات السياسية الجهوية والوطنية والدولية والمجتمعية وترك في رصيده ما يزيد على عشرة مؤلفات إلى جانب العديد من المقالات والمراسلات والمساهمات في المنابر الجامعية والدولية تناولت بعمق وإسهاب ثورة الإعلام والاتصال التّي انطلقت في النصف الثاني من القرن العشرين وكان له فيها دورالريادة والاستشراف.
        وهو ممّن ساهم في تحديد المصطلحات والمفاهيم للمنظومة الجديدة للإعلام والاتصال ، من ذلك مفهوم الاقتصاد الإعلامي،والاقتصاد المعرفي ، ومجتمع المعلومات، والعالم الافتراضي ،والثورة الرقمية ، والطريق السريعة للمعلومات ، والشبكة العالمية لخدمات الكمبيوتر( الأنترنات) والإستشعار عن بعد،والقائمة تطول لمثل هذه المفاهيم والمصطلحات الجديدة التّي أصبحت لغة العصر وقد كانت للمرحوم في تحديد مضامينها مساهمات فاعلة.

          ولسائل أن يسأل هل هو من باب الصدفة أن ينطلق الشاب مصطفى المصمودي في عالم الإعلام والاتصال؟ لا أظن.
فالمرحوم كان منذ شبابه ميالا للمطالعة والكتابة وله استعداد فطري لهذا النوع من النشاط فقد كان منذ الصغر يتنافس مع قريبه وصديق الدراسة الصحافي والإعلامي المتميّز السيد عبد اللطيف الفراتي على كتابة المقالات في المجلات والصحف الشبابية .
          وقد كان عمله لمدة زمنية إلى جانب رجل الفكر والإعلام السيد الشاذلي القليبي جعله يستقي مهنة الإعلام من معينها ويستجلي أبعادها ويباشر تطبيقاتها..
          يقول المرحوم مصطفى المصمودي " إنّ نداء ثوريا من الرئيس بورقيبة خلال ندوة قمة في الجزائر سنة 1973 هو بمثابة إشارة الانطلاق للدخول في معركة التحرير الإعلامي والثقافي بعد التخّلص سياسيا من براثن الاستعمار " وقد تأكّد لديه منذ ذلك العهد أن الثورة القادمة هي ثورة الإعلام والاتصال والمعرفة فاختار أن يكون من روادها الأوائل،وعلى هذا الأساس انطلقت مسيرة العمر في هذا الاختصاص .
مصطفى المصمودي كاتب دولة للإعلام :
          في يوم من أيام سنة 1974 في طريق رجوعه من أحد المؤتمرات حول الإعلام الملتئم في إحدى الدول الافريقية التقى الفقيد صدفة مع المرحوم السيد الهادي نويرة الوزير الأول أنذاك على متن الطائرة المتوجهة من باريس إلى تونس فاغتنم الفرصة ليطلب منه التدخل لدى وزارة الداخلية لتمنحه ترخيصا لنشر كتابه المودع لديها منذ مدة طويلة والذّي يحمل عنوان" الاقتصاد الإعلامي في تونس " فما كان من الوزير الأول إلا أن طلب منه توجيه نسخة من كتابه إلى الوزارة الأولى مشفوعة بملخص لمحتواه وكان الوزير الأول أنذاك بصدد درس أوضاع القطاع الإعلامي قصد إدخال بعض الاصلاحات عليه فكان له ذلك ولمّا ورد هذا الكتاب بين يدي المرحوم السيد الهادي نويرة واطلع على محتوى التلخيص الذّي ختمه المرحوم مصطفى بهذه الجملة المعبرة والاستشرافية " إنّ إقتصاد الإعلام لا يمثل نسبة تذكر لا في تونس ولا في أروبا إلا أنه مقبل في العالم أجمع على تطور مذهل " ، وفعلا بدأت بعض الدول الأوروبية والآسوية ثورتها الرقمية والإعلامية في آخرالسبعينات وبداية الثمانينات للقرن العشرين وتطّورت في ثلاث عقود تطورا مذهلا على جميع الأصعدة .  
          بعد أسابيع من هذا الحدث دعي المرحوم مصطفى المصمودي إلى الاضطلاع بمهمة كاتب دولة للإعلام لدى الوزير الأول ومن هنا انطلقت مسيرته المضنية والمنعشة في الآن نفسه في الداخل والخارج من أجل الإسهام في إرساء نظام إعلامي جديد .
          
         ويقول الأخ حامد الزغل  في شهادته حول الرجل في مجلة ليدرز الإليكترونية : إنّ المرحوم حاول ادخال تقنية سبر الآراء في منظومة الإعلام حتّى يتابع تغيرات الرأي العام إزاء سياسة الدولة قصد الانارة والتوجيه وتلافي الأخطاء فوجد مع الأسف معارضة شرسة جعلته يعدل عن المشروع ،ويستنتج من هذه المحاولة أنّها لو قدر لها أن تنجز ربّما كانت تجّنب تونس الكثير من الإخفاقات والانحرافات التّي أدت بها لما هي عليه الآن.
          كان المرحوم مصطفى المصمودي من دعاة الانخراط في ثورة الإعلام والاتصال والتكنولوجيا التّي بدأت تجتاح العالم بداية من سبعينات القرن الماضي ،وقد سخّر كل طاقته في مختلف المسؤوليات التّي تحملها في المستوى الوطني والعالمي وكذلك في مستوى المجتمع المدني لمواكبة هذه الثورة والمساهمة في تصوّر مفاهيمها و تحديد مصطلحاتها وتبسيطها من خلال مؤلفاته إيمانا منه بضرورة بث الوعي في المجتمع التونسي للانخراط فيها والتفاعل معها،وكان بالامكان أن تكون تونس في مقدمة البلدان المستفيدة بما توفره هذه الثورة من أسباب التقدم ووسائله في جميع المجالات.
          ومن المؤسف جدا أن ضيّعت تونس في بداية السبعينات فرصة الانخراط الفاعل في الثورة الرقمية التّي فتحت آفاقا عريضة أمام الدول التّي أخذت بأسبابها وجعلت منها قوة اقتصادية ضاربة قادرة على منافسة أكبر اقتصاديات العالم وكان من اليسير أن تكون تونس ضمن هذه البلدان لو توفرت لها الحوكمة الرشيدة والنظرة الاستشرافية ، وهناك اليوم العديد من البلدان الآسوية التّي كان لها سبق الانخراط في هذه الثورة فأصبح اقتصادها يعتمد بنسبة كبيرة على اقتصاد الاتصال والمعرفة تصل إلى60 و 80 % من منتوجها القومي الداخلي.
مصطفى المصمودي في اليونسكو وفي لجنة" صون ماك برايد ":
           من أهم الأدوار التّي اضطلع بها المرحوم على المستوى الدولي مساهمته الفاعلة لمّا كان سفيرا مندوبا لتونس بالمنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو ) سنتي : 1977 –    1978 ، وفي هذا الاطار انتخب عضوا باللّجنة الدولية التّي عهد إليها إعداد تقرير حول النظام الإعلامي الجديد وقد عرفت هذه اللّجنة باسم رئيسها "ماك برايد".
         وقد ضمّت هذه اللجنة ستّة عشر خبيرا في الإعلام والاتصال منهم المرحوم مصطفى المصمودي بوصفه ممثلا عن مجموع دول عدم الانحياز وأصدرت اللجنة تقريرها المشهور حول اختلال التوازن والحيف الّذّي كان يتّسم به المجال الاعلامي بين دول العالم ودعت اللجنة من خلال هذا التقرير إلى ضرورة إرساء نظام إعلامي جديد من أجل القضاء على اختلال التوازن وأوجه التفاوت في العلاقات الإعلامية الدولية فكان لهذا التقرير صدى ووقع كبيران هزّ أركان العالم الغربي المهيمن على وسائل الإعلام .
          وكان دور المرحوم في هذه اللجنة فاعلا ونافذا إلى درجة أنّ مواقفه الداعية إلى إرساء نطام إعلامي جديد أزعجت بعض الأطراف الخارجية المهيمنة ممّا اضطر الحكومة التونسية إلى إنهاء مهامه في اليونسكو تحت تأثيرات خارجية وإرجاعه إلى تونس على وجه السرعة وبصورة غير منتظرة .
          وباختصار شديد قام المرحوم مصطفى المصمودي لدى المنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة " اليونيسكو  " بدور ريادي على رأس مجموعة دول عدم الانحياز وليس أبلغ من ذلك شهادة صديقه " ماك برايد " نفسه عند تقديمه لكتابه النظام الإعلامي الجديد الّذي أصدره المرحوم سنة 1985 ، يقول " ماك برايد " : " لقد كان الدكتور مصطفى المصمودي بفضل نضاله وعزيمته السياسية الناطق الرئيسي باسم البلدان النّامية ويعبر عن مشاغلها ، ورغم تحاشيه التظاهر بذلك ،بقي في مقام المدافع عن حقوقها الشرعية في مجالات الإعلام والاتصال ويضيف " ماك برايد " : الدكتور مصطفى المصمودي يقحمنا من خلال هذا الكتاب في مشاغل القرن الواحد والعشرين محذرا الدول المصنعة من عواقب تحويل مظالم الأمس إلى حقوق مغتصبة بالغد " .   
         إثر صدور تقرير " ماك برايد "  ترأس المرحوم مصطفى المصمودي اللّجنة العربية التّي تأسست بسعي من الأستاذ الشاذلي القليبي الأمين العام لجامعة الدول العربية سابقا لبحث قضايا الإعلام والاتصال في 16 جويلية 1982 لإعداد تقرير حول الانتاج المعرفي والإعلامي في العالـم العربي وأعـدّ هذا التقريـر تحـت عنوان" الإعلام العربي حاضرا ومستقبلا " من طرف هذه اللجنة وساهم المرحوم مساهمة فعالة في إعداده وصياغته.
المرحوم في القمة العالمية لمجتمع المعلومات :
         بعد إنهاء مهمته في اليونسكو واصل المرحوم نشاطه في الإعلام والاتصال في نطاق المجتمع المدني على رأس الجمعية التّونسية للإعلام والاتصال التّي أسسّها لهذا الغرض و لعب من خلالها دورا ريّاديا في إعداد القّمة العالمية لمجتمع المعلومات المنعقد سنتي2003 و 2005 وأقام بسويسرا مدّة طويلة اشتغل فيها داخل اللّجان المكلّفة بإعداد مضامين المؤتمر ولاقى المضايقات والتهجم من طرف الممثلين الرسميين التونسيين ، ورغم العقبات نجح المرحوم في تقديم الإضافة باسم تونس والدول النّامية.
المصمودي عضو الأكاديمية الدولية لشؤون الفضاء :
          كان المرحوم منذ شبابه مولعا بعلم الفلك والفضاء وقد تابع كل ما يحدث في هذا المجال ووّجه اهتمامه بالخصوص إلى الأنشطة الفضائية المتّصلة بالإعلام والقانون الدولي ومن هذا المنطلق أسّس سنة 1992 الجمعية التونسية للاتصال ونشط في هذا الميدان سنينا طويلة على الصعيد الدولي إلى أن أصبح عضوا دائما بالاكاديمية الدولية لشؤون الفضاء وفي سنة 2008 انتخب عضوا بمجلس الأمناء كنائب عن المجموعة العربية وتّم انتخابه في سنة 2011 منسقا للمجموعة الافريقية في الفدرالية الدولية للفضاء التّي عقدت مؤتمرها الأخير بـ " كاب تاون " بإفريقية الجنوبية  في سبتمبر 2011 .
          كما قام بعدة محاولات للجمع بين النّظرية والتّطبيق في علم الفضاء بالتعاون مع معهد المهندسين بصفاقس ،حيث شجّع مجموعة من الطلبة الباحثين للقيام بتطبيقات في تكنولوجيا الفضاء بمساعدة الأكاديمية الدولية وكان في الإمكان صنع قمرا صناعيا لكن مع الأسف لم تتوفر له الإمكانيات ، والمجهود الذّي بذله لدى مؤسسات الدولة والخوّاص لايجاد التمويلات اللازمة لتحقيق هذا الحلم لم تفض.
        لقد ساهم المرحوم من خلال كتاباته في سبر أغوار الفضاء اللامتناهي وما انفك يدعو من خلال مؤلفاته إلى الاهتمام بالاكتشافات المذهلة التّي حقّقها علم الفضاء في الخمسينية الأخيرة من القرن الماضي وبداية القرن الواحد والعشرين ولا أدّل على أهمية الدّور الذّي اضطلع به في هذا الميدان من شهادة المرحوم محمد عز الدين الميلي الأمين العام الشرفي للاتحاد الدولي للاتصالات في تقديمه لكتابه " المظلّة الفضائية ".
   مواقفـه مـن بعض القضايا :
          ومن ميزة المرحوم أنّه كان لا يقف موقف المتفرج إزاء مختلف القضايا المطروحة سواء كانت دولية أو وطنية من ذلك دعوته بمناسبة انعقاد رابطة العالم الاسلامي في 15 أفريل 2006  بمكة المكرمة الدول الاسلامية إلى استغلال الآليات التّي توفرها الثورة الرقمية من تقنيات الكتابة الاعلامية للتصدي للحملات المغرضة ضد الإسلام والمسلمين في العالم وتقديم الصورة السمحة لهذا الدّين وتغيير عقليات رجال السياسة و رجال الدين المناوئين للإسلام.
          كان رحمه اللّه من دعاة تعصير نظام التعليم في تونس وتطوير برامجه ومنهجيّته واستعمال تقنيات التكنولوجيا الحديثة في مختلف المعاهد ، وفي هذا الإطار كان المرحوم أول من فكر وعمل على تأسيس معهد وطني للتعليم عن بعد في بداية التسعينات للقرن العشرين بمساعدات تقنية كندية وتمويلات خليجية وقد أعدّ كلّ مكونات هذا المشروع لكن مع الأسف لم يلق التشجيع من لدن الدوائر المسؤولة ولم يتحصل على الترخيص.
        والاشارة لهاتين القضيتين كان من باب الذكر لا الحصر لأنّ الوقت لا يسمح بالمزيد وممّا لا يعلمه الجميع أنّه لو شاءت الأقدار لكان المرحوم مصطفى المصمودي اليوم مديرا عاما لليونسكو.
          وقبل أن أختم لابد أن أقرأ على مسامعكم بعجالة فقرات ممّا كتبه المرحوم بشيء من الحسرة والألم لما فات وطنه من فرص الانطلاق نحو مستقبل أفضل بالدخول بقوة وعزيمة في إقتصاد المعرفة وقد ورد هذا في آخر كتاب له " بصمات تونسية في الثورة الإعلامية العالمية " فهذا الكتاب هوعبارة عن خلاصة لنضاله وإنتاجه ومساهماته داخل تونس وخارجها بالمؤسسات الجامعية والدولية في مختلف القارات." وإني لحريص في الختام على أن أهدي هذا الكتاب للأجيال الجديدة التّي لا أراها إلا فخورة معتزّة بما كان لتونس من بصمات واضحة وملموسة ومساهمات فاعلة ورائدة في التحولات التّي شهدها العالم على صعيد الإعلام والاتصال بفضل جهود نخبتها المتميّزة وكفاءتها العالية ".
كما يواصل " يكفيني شرفا أن أصبح عنوان الكتاب الذّي ألّفته قبل 40 سنة عنوان لتقرير سنوي تصدره منظمة الأمم المتحدة ومنطلقا لثورة إعلامية شاملة " .
وعن وسائل العمل والتقنيات الحديثة التي لم نحسن توظيفها في بناء اقتصاد المعرفة وتحقيق التنمية الشاملة يقول المرحوم :
" وما ثورة 14 جانفي 2011 إلا ثورة الشباب الراغب في الخروج من المجتمع الزراعي للانصهار في مجتمع المعلومات والمعرفة فكانت وسائل الاتصال الحديثة وسيلته الناجعة في انجاز هذا الحدث التاريخي الفريد " .
        هكذا كان للمرحوم شرف المساهمة في معركة التحرير من أجل الاستقلال وشرف المساهمة في بناء الدولة الوطنية الحديثة وشرف العمل من أجل اشعاع تونس في المحافل الدوليّة وواصل نشاطه السياسي إلى آخر يوم في حياته من أجل بناء تونس الديمقراطية وبالرغم من تقدّمه في السنّ وبوادر الارهاق ووطأة المرض وتداعياته انخرط بعد الثورة المباركة في العمل السياسي من أجل المساهمة في إرساء توّجهات من شأنها الحفاظ على مشروعنا المجتمعي ودعم مسارنا العسير نحو الانتقال إلى نظام سياسي مدني يعتمد على أسس الحريّة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية حتّى تبقى تونس حرّة منيعة أبدا الدهر ومحافظة على هوتها العربية الإسلامية المنفتحة على الآخر.
      تغمّده الله بواسع رحمته ورزق عائلته وأصدقاءه وكل من عمل إلى جانبه جميل الصبر والسلوان.
      وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون - وإنّ لله وإنّ إليه راجعون *** صــدق اللّه العظيــم ***
الأستاذ عبد السلام القلال

المحامي لدى التعقيب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق