الثلاثاء، 10 ديسمبر 2013

من أرشيفي الشخصي ومقالات العمود في جريدة الصباح(1)

أرشيف كتاباتي الصحفية
 مقالاتي في جريدة الصباح
 لسنة 2000(1)
في 4 سبتمبر 2000  اطردت من جريدة الصباح شر طردة، فبعد 15 يوما من الإجازة قضيتها عند ابنتي في بلجيكا، عدت مساء الأحد 3 سبتمبر مساء إلى تونس، يوم الاثنين صباحا اتجهت إلى الجريدة لتسلم عملي ، وفي جيبي وعلى كومبيوتر الزميل نور الدين عاشور المنسق العام نص الافتتاحية التي كنت كتبتها في ذلك الصباح، دخلت إلى البهو وإذا بالموظف يدعوني للدخول إلى مكتب السيد المزوغي المدير الجديد.
كنت عندما غادرت للإجازة تركت مديرا السيد فيصل بوستة وهو رجل دمث الأخلاق على كفاءة عالية وتقلب في عدة مناصب عليا قبل أن يصطفيه المدير العام الدكتور المنصف شيخ روحه ليكون ساعده الأول.
أيامها كنت متعاقدا بعد أن غادرت للتقاعد في غرة جانفي 2000 ، وأصبحت أتعامل مع دار الصباح وفق عقد لمدة سنتين قابل للتجديد  واعتمادا على أجر  بواسطة فواتير شهرية وباتيندة ، تجعل مني موظفا كامل الحقوق، استغربت من التغييرات الحاصلة فالسيد المزوغي كان موظفا سابقا، وأسر موظف الاستقبال في أذني والخوف يسيطر عليه أن مجلس الإدارة قد أقال المدير العام الدكتور منصف شيخ روحه واستبدله بمدير عام جديد قديم هو شقيقه السيد رؤوف شيخ روحه، سألت عن مكتب السيد المزوغي فتمت الإشارة إلى مكان مكتبي في الطابق الأرضي من مبنى دار الصباح، فوجئت بأن خزائن المكتبة التي كانت تسبق مكتبي قد أفرغت من آلاف الكتب وباتت المكتبة التي كنت أتولى أمرها منذ إ(ست)قالتي من رئاسة التحرير في أفريل 1993 خاوية على عروشها، وجدت مكتبي محتلا، ويبدو أنه تم خلعه في غيابي ، وكانت بدلة لي أنيقة أضعها دوما معلقة لحالات دعوتي لمقابلة إحدى الشخصيات مرمية أرضا يعلوها  غبار كثيف، وبعض أوراقي مبعثرة أرضا، قال لي السيد المزوغي ، أنت مطرود ، يمكنك أن تغادر، قلت: ليس الأمر سهلا فإن لي حقوقا ، أجابني غادر في سلام قبل استعمال القوة، وبالمناسبة المكتبة التي تعتز بها جمعنا الكتب في الكميونات ورميناها في أحد الأودية، كانت تلك الطعنة أقوى حتى من عملية طردي بتلك الصورة المهينة، ليس لي وإنما للذين طردوني، سألته أريد أن أقابل عرفك، أجابني هو لا يريد مقابلتك، انحنيت لأجمع أدباشي، البنطلون والجاكيتة الجديدان للمناسبات حال لونهما وقد ألقيا على الأرض، وكأن دبابة سارت فوقهما والكرافاتة كاردان كانت بالية وكأن كل سكان الأرض قد تداولوا  على لبسها، سألت والطابعة فهي ملكي، أجابني إنها ليست ملكك، كانت طابعة جئت بها من داري هي والكومبيوتر ولكني ليلة المغادرة للإجازة أخذت الكومبيوتر من نوع ماكينتوش معي إلى بيتي، وكنت اشتريته قبل ذلك بثلاث سنوات بمبلغ 4300 دينار، أما الطابعة فقد اشتريتها ب700 دينار من أرفع ما يوجد في السوق ومن نوع هـ ب ، وقد راحت ولن تعود.
ورغم أن جريدة الصباح كانت وما زالت تجري في دمي، فإني وبقدر أسفي على فقدان المكتبة التي كنت وضعت فيها آلاف الكتب التي تلقاها المرحوم الحبيب شيخ روحه طيلة حياته من الداخل والخارج، وما كان يأتينا من كتب ومجلات للجريدة وهو ليس بالقليل بل الكثير جدا، إضافة إلى حوالي ألفي كتاب نقلتها من مكتبتي الخاصة من بينها كتب نفيسة جدا منها كل مخططات التنمية منذ المخطط الثلاثي سنة 1961 وفي عدة نسخ، وكل نتائج التعداد السكاني منذ بداية القرن طبعا السابق ، و كنت استلمتها لي شخصيا من السيد طنبورة مسؤول النشر في مصالح الإحصاء، ومن السيد الشاذلي طريفة مدير الإحصائيات الديمغرافية،  نسخة منها حملتها  للجريدة ضاع أثرها ونسخة احتفظت بها وحملتها إلى المكتبة لتكون فيها فائدة للجميع، وكان عدد من الباحثين يأتون للمكتبة للإطلاع على كتب معينة أو على مجموعات الصحف التي كانت تحفل بها المكتبة، وقد قام بترتيبها أمين للمكتبة كان موظفا صغيرا يدعى كارم محمود على اسم الفنان الغنائي الكبير، وقد نجحنا في تبويبها، وكنا بصدد تنظيمها إعلاميا، وكان المفترض أن نتحول إلى مركز للدراسات وخلال سنة 1993 ، قمت شخصيا بزيارة إلى القاهرة للإطلاع  على مركز الدراسات في الأهرام، وقد استقبلني في غياب المدير نائبه السيد حرب وحدثني مطولا عن المركز الذي كان أنشأه محمد حسنين هيكل ، وأطلعني على إنتاجاته الغزيرة التي تستهلك في منشورات الأهرام المختلفة ، كما أمدني بوثيقة مهمة تتمثل وكنا في سنة 1993 في تقرير من صفحة واحدة صادرة فجر يوم 2 أوت 1990، أي يوم الغزو العراقي للكويت موجهة إلى الرئيس الأسبق حسني مبارك يبدو أنها كانت متزامنة مع وثيقة أخرى من وزارة الخارجية المصرية، ووزارة الدفاع المصرية، وملخص تلك الوثيقة التي ذهبت مع ما ذهب من كتب ووثائق، يبدو وكأنه كان تنبؤ بما سيحصل لاحقا، من إصرار صدام حسين على موقفه، وما يستتبع ذلك من حرب، معلومة النتائج مسبقا وهزيمة مدوية.
غير أن السلطة طلبت وقتها من الدكتور منصف شيخ روحة أن يصرف النظر عن المركز، وأحتفظ لليوم بنسخة من التقارير التنظيمية للمركز ورسم هيكلي للموظفين الذين كان مفترضا أن يستعملهم، ومنهم الزميل محمد عرفة منسية الذي كان مفترضا أن يتم تعيينه مساعدا لي وبرتبة نائب رئيس تحرير والصديق آنذاك رضا الملولي الذي كان وقتها أستاذا في التعليم الثانوي ومعارضا معروفا ، قبل أن يلتحق بالسلطة ويصبح أحد المقربين منها.
كانت حرقتي كبيرة لضياع تلك الثروة إن ضاعت فعلا، وهل يكون رؤوف شيخ روحه أمر فعلا بإتلافها  وهو رجل مثقف رغم كل شيء ولكن بقي لي شك كبير يراودني بذلك الشأن.
 عندما خرجت من المبنى كنت لا أستطيع أن أرى ، وكنت في حالة من الانفعال لا توصف، تركت سيارتي وجاءت ابنتي صحبة زوجتي لاستحالة قدرتي على السياقة، وعدت إلى البيت ، وإن خففت على نفسي بأني قلت يومها للمزوغي: "لقد سبقكم في التاريخ هولاكو الذي رمى بكتب بيت الحكمة في بغداد في دجلة والفرات"، وطبعا ليست مكتبة من 5 أو 6 آلاف كتاب في حجم مكتبة بيت الحكمة ، ولكن ذلك ما تبادر لذهني وقتها فصدعت به.
للذكر فقط فإني وقد قمت انطلاقا من الكتب التي استلمتها من مصالح الإحصاء بمقارنة بين عدد سكان المدن وتطورها، وكانت مدينة نفطة خلال العشرينيات من القرن الماضي من بين المدن العشر الأكبر في البلاد التونسية.
 ومن بين الكتب والمجلات كانت هناك المجموعة الكاملة للوثائق الصادرة عن منظمة العفو الدولية وكانت تأتي للجريدة باسمي الخاص لعلاقة لي بأوساط التنظيمات الحقوقية، وكذلك وثائق المعهد العربي لحقوق الإنسان وكل مجلات "الشرق والغرب" وهي مجلة كانت تصدر عن جامعة آكس آن بروفانس التي كنت زرتها قبل ذلك بسنوات وداومت على إرسال مطبوعاتها على عنواني في الجريدة، وغيرها مما لا أستطيع إحصاءه، وكل هذه المجلات والمطبوعات كانت تصلني ولا شك بعد طردي، إلا أنها كانت تحجب عني هي ومراسلاتي الخاصة والشخصية  ومنها الدعوات التي كنت أتلقاها من السفارات والمنظمات في كل المناسبات، كل ذلك بعد أن تم منعي من دخول مقر الجريدة.
لذلك وعندما دعاني فيصل البعطوط مدير تحرير دار الصباح الجديد ، إثر شراء الدار من قبل صخر الماطري للالتحاق بالعمل في جريدة الصباح  وكان ذلك بعد 10 سنوات، أجبته بأنني لم أعد أرغب في العمل  وأنني تفرغت للكتابة الفكرية، وكنت أكتب العمود في ثلاث صحف مختلفة بالخارج ، تخليت عنها بمناسبة إصدار جريدة المحرر التي أدرتها إداريا وترأست تحريرها منذ جوان 2011 ، غير أن الممول قرر إيقافها عن الصدور بعد أن فشل فشلا ذريعا في الإنتخابات.التي جرت في 23 أكتوبر 2011 ، كما أني لا أرغب في مسؤولية معينة، وقد تقاطر على بيتي عدد من الزملاء يلحون علي بالعودة، ولكني كنت أرفض مطلقا ، مكتفيا باقتراح الكتابة ، وكان يدفعني لذلك أمران للواقع .
أولهما أن صخر الماطري الذي لم أره ولم ألتق به  ولو مرة في حياتي، وحسبما بلغني من جهات متعددة، كان يسعى لإدخال جرعة من الحرية الصحفية في صحافة تكلست.
وثانيهما أنني كنت أسعى من جهتي لرفع سقف الحرية الصحفية إلى أعلى ما يمكن، لذلك اقترحت على الزميل الذي أعتز بصداقته فيصل البعطوط، والذي يعرف كيف إننا سعينا معا سنة 1988 إلى تحويل جريدة الصباح إلى صحيفة دولية على غرار الشرق الأوسط أو الحياة أو القبس الدولي، وكيف حالت السلطة دون ذلك بدعوى أن تحويل الصباح إلى جريدة دولية سيكون مدعاة لخروجها عن الطوق ، وإكسابها جرأة غير معهودة في البلاد، و قد عاش معي صحبة صلاح الدين الجورشي وكمال بن يونس وسليم الكراي والهاشمي الحامدي ،  تلك الحقبة التي قدتها شخصيا وسعينا فيها لإقامة صحيفة تليق بتونس، وقد التحق بنا أيامها أيضا الدكتور احميدة النيفر وشقيقه المرحوم ، ومجموعة من كبار الكتاب، و كان  فيضل البعطوط أحد شهودها، وقد صارحني بعد سنوات بالمناورات التي اعتمدت لإجهاض مشروع وطني كان يستهدف إعطاء صورة لامعة عن تونس لا عن نظامها السياسي متمثلا في تحويل الصباح إلى جريدة دولية.
خلال تلك السنة كتبت  أي في عام 2010 حوالي 70 مقالا بوتيرة مقالين اثنين أسبوعيا، واستطعت أن أضم لصفحة الرأي لا أقل من 15 من المفكرين من الداخل والخارج، أذكر من بينهم صلاح الجورشي وحميدة النيفر، وخالد شوكات  من تونس ومحمد المالكي وجمال اليحياوي والعربي المساري من المغرب وعمار جفال  من الجزائر وغيرهم كثيرون كل هذا من الذاكرة التي قد تخطئ وقد تصيب وكلهم مفكرون وجامعيون ووزراء وسفراء سابقين.
وقد أسهمنا جميعا في رفع منسوب الحرية الصفية في تلك الحقبة، التي كنت أكتب خلالها في جريدة الطريق الجديد متطوعا.
وشهادة مني أننا اعتمدنا جميعا رفع سقف الحرية حرية التعبير، وشهادة مني أن أحدا لم يتدخل ولو لمرة فيما كنت أكتب ولا اشتكى أحد ممن انتدبتهم للكتابة مرة بأن مقص الرقيب قد امتد لكتاباته.
وإذ دعيت مرة لأكون بين المناشدين، فامتنعت وكان موسم المناشدة، قد ازدهر سوقه في صيف 2010  وحصل فيه تسابق بين الصباح التي كان صخر الماطري يسيرها والشروق التي كان لبلحسن الطرابلسي تأثير قوي فيها حسب تقديري وما كان يتردد في ذلك الوقت ، فقد رفضت، وظننت أن ذلك سيكون نهاية للتعاون مع الجريدة، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث، واستمر تعاوني بدون انقطاع وبالحرية نفسها التي تمتعت بها قبل ذلك.
وأبدأ هنا بنشر ما سبق لي أن نشرته أو على الأصح ما أتيح لي أن وجدته دون إغفال شيء وبكل الأمانة التي يقتضيها الحال، وبكل ما يمكن أن يلام علي اليوم، ولكن فقط أود أن أنبه إلى أنه لا بد من اعتبار تلك الظروف بالذات وليس النظر بمنظار اليوم لتلك الكتابات.
وشكرا
بهدوء
الصباح ..1 فيفري 1951/1فيفري 2010

عبداللطيف الفراتي

في الأول من فيفري سنة 1951 دخل الحبيب شيخ روحه المؤسس لهذا الصرح الإعلامي "الصباح" مغامرة لم تكن في لك الوقت محسوبة العواقب، عندما أصدر هذه الصحيفة قبل 59 سنة ، و كان أحد المترددين على "قهوة تحت السور" أيام عزها  ، فلقد كان يتمتع بمعارف كثيرين من بين الأدباء ورجال الفن، وقبل الصدور أحاط نفسه بعدد وافر من الكفاءات من بينهم الشاذلي القليبي ومصطفى الفيلالي وفرحات حشاد والباهي الأدغم وأحمد بن صالح ومحمد المصمودي وغيرهم  بعضهم كتب وبعضهم شارك بتقديم النصح والمشورة ، ، وقد أراد لهذه الصحيفة أيامها أن تكون ناطقا باسم الحركة الوطنية، في وقت تم فيه من قبل السلطات الإستعمارية  منع صدور كل جرائد الحزب الدستوري الذي تصدى للإستعمار. كما أراد لهذه الصحيفة وقد اختار لها في رئاسة التحرير الحبيب الشطي ، بمساعدة الهادي العبيدي  ـ وكان  كل منهما قمة في الكتابة الصحفية ـ أن تكون أول صحيفة خبرية باللغة العربية في ذلك الوقت ، في  حين كانت فيه الصحف الناطقة بالعربية  صحف مقالات إلا ما ندر ، وحتى أخبارها كانت "بايتة" ومنقولة من الصحف الناطقة بالفرنسية والصادرة بتونس ، وكان أول ما عمد إليه الإشتراك في وكالات الأنباء لتكون الصحيفة قريبة من الخبر، ملاصقة له إضافة إلى انتداب شبكة من المراسلين في تونس وفي الخارج كانوا خير مزود للصحيفة بمن فيهم محمد المصمودي في باريس.
نجح الحبيب شيخ روحه في مغامرته، وكان يتمتع بموهبة وحاسة شم استقطاب الكفاءات، ووضعها على سكة العمل الدؤوب القائم على حرفية مؤكدة ، وإخلاص للبلاد، وهما  الشرطان الرئيسيان في تقدير قيمة وكفاءة من يحيطون به.
 غدا وفي اليوم  الأول من فيفري 2010 تموضع محمد صخر الماطري في مدار شبيه، وفي وقت تنصرف فيه  المبادرات عن الصحافة المكتوبة ، وتحجم عن الإستثمار فيها، وتلجأ إلى مجالات أكثر مردودية وجدوى مالية، أقدم الرجل بروح شبيهة بتلك التي كانت تسكن الحبيب شيخ روحه في سنة 1951 ، ولم يقدم فقط على امتلاك الصحيفة وشقيقاتها الصغريات التي كان المؤسس قد أصدرها بالجهد والعرق ، بل  إلى إعادة الوهج إليها، عبر إصلاحات ظهرت على صفحاتها بعد،  بهدف بمواكبة آخر التطورات المستحدثة مضمونا وشكلا، وثانيا لإثبات حقيقة أن الصحيفة الورقية الجيدة لم يول زمانها، بل هي اليوم عصب الإعلام متقدمة على الراديو والتلفزيون وحتى الصحيفة الإليكترونية.
والصباح التي كانت دوما في مقدمة ركب الصحافة المتطورة في بلادنا، أليست هي التي أدخلت  للمرة الأولى الطباعة على الأوفسيت ، أليست هي الأولى التي أدخلت الصف الإليكتروني ، أليست هي الأولى التي استعملت أحدث أجهزة التركيب وكل وسائط الطباعة العصرية؟ وما حدث في الفترة الأخيرة يؤشر على أنها  ستواصل خلال المغامرة الجديدة اللجوء لكل المستحدثات التي ستجعلها دوما في الطليعة شكلا ومحتوى ، مضمونا وجمال طباعة، كل ذلك في إطار الحفاظ واستعادة ما أريد لها من أن تكون مرجعا ، سواء في الحرفية ، أو دقة الإلتزام بالأخلاق الصحفية ، أو الجدية في التناول ، أو التنوع  في المواضيع  بعيدا عن تملق غرائز أي كان ، بحيث تعود كما كانت جريدة المثقفين وحاملي لواء القلم، ولعل أكبر دليل على ذلك تلك العودة القوية لمقالات الرأي سواء في ملاحقة الأحداث أو عبر صفحة المنتدى، وإذ بلغ الشوط مداه في ما لا يقل عن 9 أو 10 مقالات للرأي في كل عدد ، فذلك دليل على أن هذه الجريدة ستنأى بنفسها عن الإسفاف أو الإنحدار، وستسعى لأن تكون في قيادة  مسار الرأي العام في البلاد ، لا اللهاث خلفه ، فتربأ بنفسها عن أن تكون في سعيها ذات وجهة تجارية ، أو تجارية فحسب ، بطموح كبير لأن تكون جريدة النخبة ، (عدا الجماهير العريضة)، مستقطبة كتابا وقراء، الجامعيين والمفكرين والأدباء والإقتصاديين والمؤرخين ورجال السوسيولوجيا  والقانون وغيرهم من الفئات التي ينبغي لها أن تكون في  مقدمة الركب فتخرج من صمتها حتى لا نقول كلمة أخرى.
ولعل تحريك سواكن المثقفين بكل علمهم ، ومعرفتهم ، وأيضا جرأتهم هي عناصر الرهان المقبل للصباح الجديد، ليسهموا في دفع الفكر في بلادنا ، الفكر الذي يصنع مستقبل الشعوب لأنه هو الذي يستشرف المستقبل، وهو الذي يضع العلامات الدالة على جوانب طريق التطور والإزدهار والتنمية بكل أبعادها.




بهدوء
التصحر الديموغرافي
شرعت تونس في اتباع سياسات لتنظيم النسل منذ ما قبل منتصف الستينيات ( وتكثفت منذ الثمانينيات وعلى إثر تحول السابع من نوفمبر)، وكان هدفها الإرتقاء بالأسرة التونسية ، عبر تحقيق تخفيض في عدد الأطفال الذين يضغطون على حياة العائلة، ويضنون الأم خاصة ، وقد آتت هذه السياسات التي تكثفت في أفق ما قبل التسعينيات بقليل،  ـ آتت ـ أكلها في السيطرة شبه التامة على تزايد النسل ، وخلال أكثر من عقد من الزمن ( في التسعينيات) أمكن المرور من 9 ملايين من  السكان إلى 10 ملايين بمشقة شديدة.
واليوم وفي غرة جويلية الماضي فإن عدد سكان البلاد لم يصل إلا  إلى 10 ملايين ونصفا، وفي نفس الوقت تقريبا أي بين منتصف الستينيات و2010 فإن بلدا مثل سوريا قد مر عدد سكانه من رقم ليس بعيدا عما كان موجودا في تونس إلى ما يفوق 17 مليونا.
هذا يعني أن تقسيم كعكة الإنتاج قد أدى إلى ارتفاع قسط كل فرد من السكان أكثر مما هو في البلد الشقيق هذا إذا تساوت نسبة النمو السكاني بين البلدين ، وقد دلت الأرقام على أن هذه النسبة أرفع وأعلى عندنا ، كما مكن واقع الأمر من المرور بمعدل الدخل الفردي إلى 4آلاف و500 دينار ويكاد يصل للضعف بقياس ذلك الدخل إلى الطاقة الشرائية.
هذا هو الوجه المضيء لتجربة تنظيم النسل التي خفضت من عدد الولادات وأنقصت من نسبة  الخصــوبة ( أي عدد الأطفال الذين تضعهم السيدات في المعدل طيلة سنوات عمرهن القادرات فيه على الإنجاب) في الوقت الذي انخفض فيع عدد الوفيات بين الأطفال بشكل كبير .
لكن للمسألة مظهرا آخر يجب الوقوف عنده ، وهو الخوف من نوع من التصحر الديمغرافي في بلادنا بالقياس للبلدان الشقيقة والمجاورة.
وتبرز الإحصائيات المتاحة اليوم أن عدد سكان البلاد المغاربية الأربعة باستثناء موريتانيا هي كما يلي بالنسبة لسنتي 2009 و2008 :
المغرب : 31.5 مليونا تقريبا ، الجزائر: 33.7 ملايين، تونس : 10 ملايين و432 ألفا ، ليبيا : 6 ملايين.
ولكن كم سيكون عدد السكان في البلدان الأربعة في أفق 2040، وفقا لما توفر من دراسات حديثة جدا:
المغرب حوالي 45 مليونا
الجزائر حوالي 47 مليونا
تونس  حوالي  13  مليونا
ليبيا قرابة 10 ملايين .
معنى هذا أن الجيران والأشقاء يشهدون زيادات في عدد سكانهم أكبر مما تشهده بلادنا.
ويبرر بعض الديموغرافيين ذلك بأنه سيسمح للمواطنين التونسيين برغد عيش أفضل ، وذلك لتوفر قاعدة إنتاج لعدد لا ينمو كثيرا وسريعا، بعكس البلدان التي تتسارع فيها وتيرة الزيادات السكانية ، بصورة أقوى فهي مرشحة لأن تجد صعوبات أكبر في حل المعادلة الصعبة لتفعيل التزايد السكاني وتزايد فرص العمل، وتنامي الإنتاج وإن كانت هناك عناصر أخرى وهامة تدخل في إطار تلك المعادلة.
لكن معنى هذا أيضا أن هناك تحد استراتيجي مهم لا بد ان يقع وضعه في الحساب ، يتمثل في أن البلاد التونسية  تبدو وكأنها على أبواب تصحر ديموغرافي ، متمثل في فراغ سكاني بينما يشهد الجيران طفرة في التزايد البشري.
وإذ لا يعتقد الخبراء أن ذلك يمثل تحديا حقيقيا ، فتونس مرشحة وسريعا لأن تصبح بلدا مستقطبا للهجرة الخارجية ، ولو فتحت الأبواب من الآن لهجمت على البلاد قوافل من المهاجرين. غير أن هذا التصحر لا بد من أخذه في اعتبار السياسات المرسومة، لا في اتجاه العمل على تخفيف سياسات تنظيم النسل ، فذلك غير ممكن حتى ولو أرادت الدولة ، باعتبار مظاهر الوعي الشامل الناتج عن انفجار تعليمي سبقت فيه تونس الآخرين من حول البلاد، بحيث اعتبر هذا التنظيم مكسبا اجتماعيا حتى ولو صحت الإرادة على تجاوزه فإن الوعي العام لا يمكن أن يسير في اتجاه تراجعي.
إن سلاح تونس الكبير كما يقول عدد من الخبراء، ليس في أعداد سكانية كبيرة ، ولكن في جسم اجتماعي سليم متعلم تسود فيه الصحة العامة وأعلى قدر من الرخاء الممكن و فوق ذلك متضامن، غير أنه لا ينبغي أن تخفى على بلادنا وليس فقط مسؤوليها بل وأيضا وخاصة جماهيرها تلك الحقائق وما يحتاجه علاجها من وفاق وطني شامل.










الحقائق الصلبة
بقلم عبداللطيف الفراتي
حقيقتان يخرج المرء بهما بعد الحرب على غزة :
لا ينبغي أن يحجب  عنا غبار المعركة معالم الطريق
وينبغي أن يكون واضحا أن الحرب هي أداة عسكرية لتحقيق أهداف سياسية، فليست هناك حرب ومعركة عسكرية من أجل الحرب ، بل  إن الحرب كانت دوما تستهدف تحقيق أهداف سياسية معينة ، وتحاول بالنسبة للمنتصر أن يفرض على المهزوم شروطه .
ومعالم الطريق تبقى واضحة من وجهة نظر التحليل السياسي الواعي، فالفلسطينيون مهما كانت توجهاتهم يستهدفون إقامة دولة لهم ، ومهما ثار من غبار فإن ذلك الهدف يبقى قائما ، غير قابل لأي أخذ أورد.
ولكن وسائل وأساليب وغايات  ذلك  وأبعادها ، هي التي تبقى محل خلاف بينهم.
ولا بد من أن يذكر المرء قولة عرفات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة :"جئتكم وبيدي البندقية ، وباليد الأخرى غصن الزيتون ، فلا تتركوا غصن الزيتون يسقط من يدي" .
ولذلك تبقى الثنائية قائمة من منطلق أن المقاومة بدون أفق تفاوضي لا معنى لها ، فليست هناك معركة حربية أو مقاومة لا تستهدف حلا سياسيا، كما إن التفاوض والحل السياسي ، بدون مقاومة ، تدعم وتوفر للحل السياسي احتمالاته ، يبقى مسألة نكاد نقول عبثية ، فبدون الضغط الفعلي ، لا يمكن لأي كان، لأي خصم أن يذعن لإرادة شعب.
والقضية الفلسطينية لا يمكن أن تفلت من هذه الحقائق الصلبة ، والكونية، والتي يدركها المنظرون السياسيون منذ بدء التاريخ ، ويعملون على تحليل أبعادها ، وتأثيراتها.
وكما إن المقاومة ضد الإحتلال ، هي حق من الحقوق التي اعترفت بها الشرعية الدولية ، متمثلة في أدبيات الأمم المتحدة ومواثيقها وعهودها ،وهي لا يمكن أن تصنف مطلقا في خانة الإرهاب، فإن المقاومة لا بد أيضا أن تكون ذات أفق سياسي ، بدونه لا تبدو للطريق نهاية ، أو غاية.
وفي هذا الإطار لا بد أن تكون الأهداف السياسية واضحة ومتفق عليها، ولا بد أن تكون في نطاق الإمكان القابل للتحقيق.
لا ينبغي للمرء أن ينسى أن القضية الفلسطينية ، هي قضية متفردة في العالم في الزمن الحاضر ، حيث يختصم شعبان على أرض واحدة ، وهي بعكس كل قضايا وحركات التحرير التي قامت في العالم ، وانتصرت فيها الإرادة الشعبية ، على القوى الدخيلة ، تعرف أطوارا أخرى ، قامت وفرضت نفسها كأمر واقع ، ولا يمكن طرحها من الحساب، رغم أن أصل القضية قائم على مظلمة تاريخية فاضحة ، تمثلت في إعطاء مجموعة خارجية حقا لا حق فيه أعطاه من لا يملك ( الأمم المتحدة ) لمن لا حق له في أن يملك ، وفرض بذلك شرعية ، وإن كان مشكوكا في مشروعيتها ، فقد فرضت نفسها بحكم الأمر الواقع ، وبحكم القوة الغاشمة ، وبحكم تأييد القوى النافذة في العالم ، بما فيها أمريكا وأوروبا الغربية ، وروسيا والصين وغيرها من بلدان أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا.
ومن هنا فلا بد من رسم معالم إستراتيجية واضحة ، ومحل وفاق إن لم يكن إجماعا بين الفلسطينيين ، ورغم المقولة القائلة بأنه لا شيء مستحيل في السياسة ، فلا بد من العودة أيضا إلى المقولة الأخرى : السياسة هي فن الممكن.
وتمر هذه الإستراتيجية عبر الضرورة القصوى للعودة بين الإخوة الفلسطينيين إلى وفاق أو وحدة وطنية وتشكيل حكومة موحدة لنسمها ما نسميها لضرورة اعتبارات لا ينبغي أن تغيب مطلقا وهي :
-         أن منظمة التحرير سواء بتركيبتها الحالية ، أو أي تركيبة أخرى في المستقبل ، تمثل الشرعية الدولية للقضية الفلسطينية في غياب الدولة وحتى قيام تلك الدولة  فهي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني بحكم الشرعية العربية  منذ 1973 ثم الشرعية الدولية منذ 1993، وهي محل اعتراف إجماعي دولي ، وهي التي انبثقت منها السلطة الفلسطينية ، بحكم اتفاقات أوسلو.
-         أن حماس تمثل شرعية السيادة الشعبية متمثلة في  نتائج الإنتخابات التي أفرزت نجاحها في حيازة الأغلبية.
-         أن محمود عباس ، وحتى انتخاب رئيس آخر للسلطة ولما يسمى تجاوزا من جهة القانون الدولي ومقتضياته الدولة الفلسطينية ، يمتلك جزء من السيادة الشعبية ، … ويبقى الممثل الرسمي للشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية أمام العالم الخارجي ، ولا يفيد أن نعترف أو ننكر ذلك عليه.
ومن هذه الحقائق الثلاث لا بد من الخروج بوضع منطبق على الحالة الفلسطينية ، قائم على أساس يجمع كل الأطراف ، ويرتفع فوق كل أشكال الصراع الداخلي ويؤجلها لما بعد الحل السياسي ، سواء كانت خلافات ، وهي أساسا قائمة على  فروق التصور المجتمعي ، وهل هو مدني أو ديني  وهي فروق قائمة ولا ينبغي إغفالها، أو على فروق إستراتيجية المواجهة مع إسرائيل ،هل هي سياسية أو عسكرية حربية مقاومة ، أو الإثنتين معا.
وإذا استطاع الفلسطينيون أن يرتفعوا فوق خلافاتهم ، وأن يحققوا قيام حكومة موحدة مهما كانت تسميتها ومواصفاتها ، وإذا اعترفوا بالأهداف الدنيا التي يمكن لهم تحقيقها ، بحكم التوازنات القائمة حاليا، والتي تمثل هي الأخرى حقائق صلدة لا يمكن القفز عليها، فإن القضية ستسير بطبيعتها إلى نهاية ما قد لا تكون مرضية  تماما لكل الأطراف ، ولكنها يمكن مرحليا أن توصل إلى نتائج معينة.
أما إذا بقيت الخلافات ، وتواصلت الإنقسامات ، والتراشق بالتهم التي ما أتى بها الله من سلطان ، وإذا بقيت الضفة مفصولة عن غزة ، وغزة مفصولة عن الضفة ، فأي حل ممكن بكيانين اثنين ، ومن أين يمكن الحديث عن حل الدولتين، وهو ما تتمناه إسرائيل  وتعمل على تواصله فيبقى الحال على حاله ، ويستحيل الحل أي حل .
اللهم إلا إذا كانت تلك هي الإرادة التي يتبناها البعض، والقائمة على أساس أن هذا الجيل إن عجز عن التحرير للأرض الفلسطينية كاملة ، فلا أقل من أن لا يرهن مستقبل فلسطين " باتفاقيات وتنازلات مشبوهة"  ، ويترك لأجيال مقبلة شرف التحرير الكامل.
هذا طبعا إذا لم يكن وقتها  قد فات الأوان ، وقام أمر واقع ، لا فكاك منه، كما حصل عبر التاريخ عدة مرات ، في أصقاع أخرى.
















بكل هدوء
يا عرب..
بقلم عبداللطيف الفراتي
عندما تحل مصيبة بجزء من العالم العربي،، تسارع القيادات العربية للهرب من المسؤوليات القومية التي يفرضها الإنتساب العربي ،  الذي يتقدم كل الإنتماءات الأخرى أو هكذا يتبادر إلى الذهن.
ولم تخرج الحرب على غزة ولا سقوط مئات الضحايا بين قتلى وجرحى، ـ في انتظار الحصيلة النهائية التي ستكون أكثر وقعا ـ  لم تخرج  على العادة المألوفة ، فتم تسجيل غياب عربي فاضح ، واكتفاء ببيانات لا تسمن ولا تغني من جوع ، تصدر من هذه العاصمة أو تلك .
 وأمام هول الفاجعة ، لم تجد لا الحكومات ولا الزعامات المؤثرة من فرصة أحسن ، لتبادل التهم ، ولتحميل للمسؤوليات ليس هذا أوانها ،  ووصل الأمر للإتهام بالخيانة والتذيل للبعض ، والوقوع تحت تأثيرات أجندات إقليمية للبعض الآخر  ،  واتخذت تبريرات واهية لمواقف الضعف  والتخاذل  ومن كل الأطراف والجهات على حد سواء ،  وسكتت كل الجبهات العربية ـ والتأكيد على كل الجبهات مقصود بذاته - عن أي رد فعل حقيقي ، حتى للتخفيف  القليل عن غزة الشهيدة ، تبريرات لا يمكن أن تقوم ذريعة أو تقنع أحدا أو حتى ترضي ضميرا، إلا إذا كانت الضمائر نائمة إلى الحدود غير القابلة للتصور ، أو ماتت دفعة واحدة.
ورغم الإدراك الموجع وبالتجربة أننا كعرب لا نستطيع شيئا فعليا  زمن الأزمات ولا خارج زمن الأزمات ، وأن كل قدراتنا تتوقف عند صياغة بيانات رنانة ، تكون بلا تأثير وبلا غد ، فقد كان أقل الإيمان أن يجتمع وزراء الخارجية العرب في نفس يوم أو في اليوم الموالي لبدء عملية التقتيل الجماعي ، غير أن الوزراء لم يجتمعوا إلا في اليوم الخامس ، لما سيسمى بالحرب على غزة ، وبعد أن خفت وقع مفاجأة العدوان إن كانت هناك مفاجأة ، فأمر هذا الهجوم لم يكن لا غادرا ,ولا مفاجئا بل كان متوقعا ، ومرسوما ، وتعرف به كل الدول إلا تلك التي كانت في سبات عميق ، وإذا كان توقيته قد فاجأ حماس ، وأوقع ضربات موجعة في جهاز أمنها ، بعد أن توقعت أن يبدأ الهجوم بعد الأحد ، وبعد اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي يوم الأحد ، فإذا به يحصل يوم السبت ، ولا يعطي الفرصة لحماس لإخلاء مقراتها الأمنية ، وهو ما يفسر ارتفاع عدد قتلى اليوم الأول من الغارات ، التي فاجأت الأجهزة الأمنية الحماسية في عقر دارها، وبلوغ عدد هم ولكن أيضا في صفوف المدنيين ما يزيد عن 200 قتيل ،،
ولعل من المخجل ، أن لا يبادر وزراء الخارجية  العرب ، ـ ودعنا من هزال الحصيلة التي خرج بها الإجتماع  وعدم تناسبها مع ضخامة الحدث ـ إلى اجتماع عاجل وطارئ في اليوم الخامس من بدء الغارات ، و بالعكس يبادر ويسبق وزراء الخارجية الأوروبيين زملاءهم العرب بيوم كامل ، وهم ليسوا معنيين بالدرجة الأولى مثلنا، والضحايا ليسوا من دمهم ولا منحدرين من صلب العرب.
وإذ كان يمكن للعرب أن يجمعوا صفوفهم منذ اليوم الأول على قرار ، يفكك أسباب الإزمة وتلتزم به كل الأطراف ، ويعطي مظلة للفلسطينيين في ظل التزامات متبادلة ، مرر العرب الفرصة ، وتركوا الأمر يتسرب من بين أصابعهم للمعالجة الإقليمية وحتى الدولية ، وباتت تركيا  وكذلك فرنسا هما  اللاعبان  الأول والثاني  على الرقعة، ويبدو أن تركيا بالذات تجد آذانا صاغية من كل الأطراف ، الطرف الإسرائيلي الذي تقيم معه علاقات جيدة وحتى ما يشبه التحالف ، والطرف المتمثل في حماس باعتبار الطبيعة الإسلامية  المستنيرة للحكم القائم حاليا في تركيا.
ويبقى السؤال مطروحا ، لماذا لم تجتمع قمة عربية من اليومين الأولين لاندلاع الأحداث ؟
وإذا لم تجتمع في مثل هذا الظرف فأي ظرف أخطر وأوقع من هذا.؟
ويذكر المراقبون أن القمة العربية ، وبعد اجتياح صدام حسين للكويت في 2 آب أغسطس 1990 ، لم تحزم أمرها على الإجتماع سوى بعد أسبوع وليس بكامل عدد الرؤساء العرب في 9 أب أغسطس ، وقد تم إفلات كل القضية من الأيدي العربية ، وتولته في حينه القوى الدولية ، التي لم تجد من علاج سوى الحرب التي دمرت الأخضر واليابس بعد ذلك في شتاء 1991 وما زالت تأثيراته قائمة حتى اليوم عراقيا وإقليميا  ، فتم تحرير الكويت ، وأجبر صدام حسين على ترك فريسته ، والإنسحاب من الدولة العربية الشقيقة ، التي وجدت في الولايات المتحدة والغرب لا العرب  المنقذان.
ولذلك والعرب أعجز من أن يتصوروا حلا ، أو يناقشوا بصراحة موضوعا  ، ودون تخوين أو اتهام بالتذيل لهذا الطرف أو ذاك ، فإنهم يتجنبون دوما الخوض في المشاكل التي تطرأ على حياتهم ، وللمقارنة ، فإن قضية الصحراء الغربية  هذه القضية العربية – العربية ، التي لم يتناولها العرب قط ، قد سقطت في أيدي منظمة الوحدة الإفريقية والأمم المتحدة ، وعولجت بعيدا عن المصالح العربية ، وأخيرا وبمناسبة الإنقلاب غير الشرعي ولا المشروع في موريتانيا ، الذي حدث في شهر آب أغسطس الماضي ، رفع الإتحاد الإفريقي عقيرته عاليا ضد الإنقلابيين ، وضغط صحبة أطراف أخرى حتى اضطرت الطغمة العسكرية المنقلبة ، إلى إطلاق سراح الرئيس المخلوع ، والتعبير عن الإستعداد لإجراء انتخابات رئاسية جديدة، وهذه ليست فقط قضية عربية – عربية بل بالذات قضية داخلية ، تدخل فيها الأفارقة وحققوا بعض المنتظر منهم خدمة لقضية الديمقراطية ، في أحد بلدان القارة، رغم الخلافات وأحيانا حتى الحروب التي تشق الصف الإفريقي ودوله ، التي يمكن أن تختلف في كل شيء ، ولكن تتوحد حول جملة من المبادئ والقيم ، بعيدا عن النفاق ، واعتمادا على المصارحة والقدرة الفاعلة على التدخلات التي يخرج بها الوفاق الواسع،  وبعيدا أيضا عن تهم الخيانة وتهم التذيل، وما يحوي الحديث عنهما من كلام ناب يخرج عن آداب الحوار الذي يعتبر أساسا غير قابل للتضحية به.
إن العرب بجامعتهم ، وبقممهم ، وباجتماعاتهم ، وبتبويس اللحى المنافق ، في حاجة إلى ثورة ثقافية تمس سلوك الحكام والحكومات ، كما تمس سلوك الشعوب التي هي صاحبة الحق والمصلحة ، والتي ترتبط بروابط لا يمكن أن تنفصم ، رغم إرادة البعض منهم بالقول بأن كل شعب من شعوبهم قائم الذات بدولته ومصالحه، ولا شأن له بالآخرين ، ورغم قول الآخرين بأن الأمة العربية والوطن العربي ، هي خرافات ولى عهدها ، وأن انتماءات أكبر أو أصغر هي المسيطرة ، فردود الفعل الشعبية الواسعة في كل أرجاء) العالم العربي ) تمثل رغم كل  شيء ظاهرة صحية ، وتؤكد على  أن الترابط العربي قوي ، وعلى أن العرب يمثلون مهما كان من أمر كيانا واحدا  بدول متعددة  وإن تشتت أطرافه ، واختلفت قياداته.









ليوم الأحد 18 فيفري 2010-02-16
 العملية التعليمية على المحك
بقلم عبداللطيف الفراتي
غدا وبعد غد لن يستقيم لأي بلاد توجه، إلا بالعملية التعليمية ليس فقط ، بل بمستوى ما تحضنه تلك العملية من محتوى مرتفع.
وإذ راهنت تونس على التعليم منذ الإستقلال ، وكانت أول بلد يحصل من المؤسسات المالية الدولية على القروض الضرورية لدفع التعليم ، باعتبار أن الإنسان المتعلم هو مقوم أساسي من مقومات التنمية.فإن رهانها على التعليم يبقى مستمرا متواصلا.
وفي ذلك الحين  تم اعتماد الإقناع بالتعليم كعامل تنمية جهودا كبيرة ، وإذ يبدو اليوم  ذلك وكأنه بديهية من البديهيات ، فإن الأمر في حينه تطلب   أخذا وردا ومفاوضات لا تنتهي قبل أن يقر البنك الدولي ، وعن مضض ، بأن التعليم يمكن أن يكون عاملا من عوامل النمو والنهوض، فيقرر صرف تمويلات قابلة للسداد لبناء المدارس ، وانتداب المعلمين.
وكان ذلك التمويل لا يقدم قبل ذلك  إلا للأشياء المادية كبناء السدود أو الجسور والطرقات وغيرها من الإنشاءات البنائية.
وشيئا فشيئا ، وتبعا للسبق التونسي ، فقد باتت العملية التعليمية تشكل اليوم قلب الرحى في الجهد التنموي في أي بلد في العالم.
وبالمناسبة ، وخلال زيارة لي للبنك العالمي في واشنطن  قبل 20 سنة ، في خضم سلسلة من الدعوات وجهت وقتها للصحفيين لتلميع الصورة ، ذكر مسؤول "الديسك" التونسي أي المهتم بتونس في معرض الحديث عن الموارد البشرية، إن التعليم التونسي يعتبر من مستوى جيد ، وأن على البلاد أن تحافظ على ذلك المستوى حتى لا تسقط في الضحالة ، مثل بلدان ذكرها وقتها ولا أود أن أسميها.
واليوم وبعد عقدين من الزمن ، فهل لنا أن نتولى القيام بتقييم فعلي لتعليمنا ، رأسمالنا الأول منذ اتخذناه كرهان للتنمية، وأن نتأكد من موضع أرجلنا هل تقدمنا به أم تراجعنا ، وهل مكتسبات اللغة والرياضيات والعلوم والإنسانيات أفضل أم أسوأ مما كانت عليه.
ما نسمعه غالبا، أن المستوى في انحدار، ولكن هناك من يقول إن العملية التعليمية تتطور، وان أولويات الأمس ليست بالضرورة   هي أولويات اليوم.
وهناك من يهزهم الحنين إلى زمن كانت 5 أخطاء في الإملاء الفرنسي تساوي صفرا، وأن عدم جمع 18 نقطة في اللغة الفرنسية من أصل 40 يعني الرسوب مهما كانت نتائج المجموع وقيمة المعدل العام.
غير أن هناك طرقا للتقييم لمعرفة مكان أرجلنا جربت فصحت وهذه ينبغي أن يقع اللجوء إليها.
ففي عدد من البلدان يعمدون اليوم للتقييم الموضوعي ، ومعرفة ما إذا كانت مستويات التعليم في تصاعد أو في نزول.
وفي مستويات معينة خلال العملية التعليمية بكل مراحلها ، يجري امتحان عينات من التلاميذ والطلبة مختارة بصورة علمية  ممن يتابعون الدراسة حاليا  ، باعتماد نفس المواد ونفس الصعوبات ، لأجيال متعددة عاشت في أوقات مختلفة.
أي إن تلاميذ معينين ومن مستويات مختلفة بين متميزة و فوق المتوسطة ومتوسطة، تجري عليهم امتحانات بنفس النصوص والمسائل التي اعتمدت في السيزيام مثلا سنة 1960 أو 1970.
وانطلاقا من ذلك يجري إصلاح أوراق الإمتحان بنفس المقاييس التي اعتمدت في ذلك الزمان، وتعلن النتائج على الأسس نفسها التي تم اعتمادها في ذلك الحين.
وبالمقارنة يعرف المربون ، هل إن مستوى العملية التعليمية ارتفع أو انحدر، فيتواصل الأخذ بالمستحدث، أو يتم إصلاح ما تعثر.
وهذا صحيح أيضا للباكالوريا وحتى لما بعدها.
وبذلك تتاح للبلاد طريقة علمية للتقييم ، والتأكد مما يبدو وكأنه انطباع ليس إلا، سواء كان الأمر أفضل أو أسوأ.
وإني لأذكر أن امتحان السيزيام الذي يقال عنه إنه مجرد مناظرة ، كان يفرز لسنوات طويلة نسبة من النجاح تتراوح بين 20 و25 في المائة، وكان عبارة عن غربال ضيق الثقوب، وفجأة وبلا مقدمات قفزت النسبة إلى أكثر من 40 في المائة، واضطرت وزارة التربية أيامها لانتظار عودة الوزير الأول  من سفره، آنذاك لإعلان النتائج التي تأخرت ليوم أو يومين، باعتبار أن زيادة العدد بهذه الصورة له تداعيات عديدة ، ليس أقلها شأنا زيادة ميزانية الدولة في المادة التعليمية ، باستيعاب أعداد غير منتظرة ، ما فرض القيام بعمليات تحكيم معقدة، والبحث عن موارد جديدة لتمويل الزيادة العددية.
وكان السؤال آنذاك، كيف ولماذا وما هو تفسير مضاعفة عدد الناجحين في السيزيام بين عام وآخر، هل ارتفع المستوى فجأة ، أم إن الأمر لا يعدو أن يكون قرارا سياسيا وقتها.ولقد جاءت سنوات لاحقة "تحسنت" فيها نسب النجاح بصورة محسوسة.
لذلك فما أجدرنا أن نقوم اليوم بعملية مقارنة تقييمية ، لمعرفة مركزنا وأين نحن ، والمقارنة مع الماضي ، وهل تحسن مستوى تعليمنا بكل أصنافه ودرجاته ومراحله واختصاصاته ، أم لا، بل وهل تدهور.؟
فلا أخطر من بلد ينحدر مستوى تعليمه، لأن المستوى هو الذي يكيف مدى النجاح العام، ونحن بلد له من الطموح ما يجعله لا يريد لنفسه  إلا مستوى تعليميا راقيا ،كما عهده دوما، فبدون ذلك المستوى الراقي  لا يمكن لعملية التنمية إلا أن تتعثر.














ليوم الخميس 25 فيفري 2010-02-17
التحدي الكبير
بقلم عبداللطيف الفراتي
من جملة التحديات التي ستواجه البلاد خلال السنوات وربما العقود التالية ، نجد واحدا من أكبرها متمثلا في تحدي المياه، وإذ" جعلنا من الماء كل شيء حي" فإن أي حياة لا تستقيم إلا بالماء.
ولقد تفطنت بلادنا مبكرا ، لهذا التحدي ، وبذلت الجهد والمال لرفعه، فأقيمت السدود ، وامتدت القنوات ، ولم يشك لا البشر ولا الصناعة ولا السياحة ولا الفلاحة يوما من شح المياه أو ندرتها أو عدم وصولها إلى حيث ينبغي أن تصل.
وامتدت شبكة مياه الشرب إلى أطراف البلاد ، وكادت تصل إلى حد الإشباع، من حيث إنه قليلا ما بقيت قرية ، حتى منعزلة دون مياه.
كما لم يقع طلب لا سياحي ولا صناعي على المياه إلا وكانت الإستجابة إليه فورية ناجزة، وبالمقارنة مع بلدان أخرى مجاورة فقد كانت تونس سباقة.
ولم تأل البلاد جهدا في تعبئة الأقصى من المتاح من المياه مهما كان مصدرها، وأنفقت أموال باهضة لإقامة شبكة توزيع ممتدة، يتم تجديدها باستمرار، كما يتم تعهدها، لتلافي ما يسميه الإخوة المشارقة بالفاقد ، أي الماء المتسرب بين مصدر الإنطلاق والعداد أينما وحيثما كان موقعه.
واستعملت التعريفات العالية لردع هدر هذه الثروة التي يعتبر جانب منها غير متجدد.
غير أن السنوات المقبلة تنبئ عن حقيقة لا مراء فيها، وهي أن بلادنا سوف لن تنعم بالوفرة المائية الدائمة، وأن عليها أن تستعد لذلك ، وتواجهه بالحكمة اللازمة.
ورغم الإستقرار الديمغرافي فإن الإستهلاك المنزلي في تطور، هو وحده الغير مرغوب، وبطبيعة الحال فإن النمو المسجل يدفع لزيادة الإستهلاك في القطاعات المختلفة غير المنزلية والبشرية، وهذا ما يدفع للتفكير لا في مصادر جديدة لإنتاج أو استغلال المتاح من المياه فقط ، بل والبحث في كيفيات إعادة توزيع ذلك المتاح.
وتبقى الأولوية الأولى بلا مراء ، هي الإستعمال البشري ، وليس هو اليوم الحائز على أكبر قدر من المياه أو الأول في الإستهلاك، بل هو بعيد جدا عما تستهلكه الفلاحة ، في المناطق السقوية ، التي غيرت وجه البلاد، وخلقت وفرة إنتاجية ، قليلة الوجود في المنطقة ، وأثرت بذلك على نسبة النمو ، وأدخلت توازنات جديدة فضلا عما قضت عليه من ندرة كانت قائمة متحدية وانتهت إلى التراجع.
ولما كان الإتفاق قائما على أن أولوية الأولويات هي المتمثلة في توفير المياه اللازمة للإستعمال البشري قبل غيره ، فإنه بات مؤكدا في نفس الوقت البحث عن مصادر جديدة للمياه خاصة في المناطق المعطشة ، مثل بعض مناطق الجنوب، وتحكيم مر ومؤلم بين أصناف الإستهلاك، ستكون الفلاحة ولا شك ضحيتها.
وقد تحتاج بلادنا وعلى نطاق واسع ، وفي مستقبل منظور إلى تحلية المياه، لتوفير حاجيات الإستهلاك البشري ، مع ما هو معروف من كلفة عالية للمياه المنتجة بهذه الطريقة، ولو تم استعمال الطاقة الشمسية في ذلك الإنتاج .
غير أن "أعشاش" الإقتصاد في الماء على رأي الكلمة الفرنسية ، تبقى كبيرة، وإذ تمت السيطرة على الفاقد، وإذ تم استعمال السعر كرادع ، فإن ترشيد الإستهلاك ، يبقى قائما وحملات التوعية الواجبة ضرورية واللجوء إلى تقنيات التقليل من المستخدم لا غنى عنها.
إلا أن اقتصاد هدر المياه ستكون مركزة على الفلاحة ، حيث تضمن تقنيات الري بالتقطير، بل وحتى استعمال الكومبيوتر كما في الدول المتقدمة، بتوفير مياه حسب الحاجة ، حاجة التربة ، وحاجة النبتة، وحرارة الطقس وغيرها ، تضمن تقليل المياه المهدورة، وهذا ما يتطلب تحكيما بين قطاعات الإستهلاك، والكف عن اعتبار الفلاحة أولوية مطلقة لا يمكن المساس بأولويتها أو النسبة المخصصة لها من المياه.
وإذ ستبقى الفلاحة حائزة على المرتبة الأولى بين قطاعات الإستهلاك المائي بأكثر من ثلاثة أرباع المياه المتاحة، فإنه لا بد أن يصار إلى تخفيض تلك النسبة لفائدة الإستهلاك البشري ، الذي لا بد من ضغطه هو الآخر إلى أقصى الممكن، مع ترشيد أقصى لتلك الأولوية.
فتالوازنات المائية تقتضي إعادة ترتيب البيت ، واستعمال كل المتاح غير المستغل مثل مياه التطهير في عمليات الري بعد رسكلتها، ولا بد أن ندرك بوضوح ان بلادنا ، ليست تلك الأرض الغنية بمياهها ، مثل العراق (أول معدل للماء بالقياس لعدد البشر عالميا) أو مصر حيث تشق أنهار ضخمة الأرض فترويها ، والمناطق العمرانية فتقلل من كلفة نقل المياه وتجعلها متهاودة.
بلادنا إذن ، واجهت ندرة المياه، بتعبئة الأقصى المتاح منها، فوفرت على عكس غيرها من البلدان المجاورة حاجيات ما زالت دول أخرى تسعى لتحقيقها، ولكن بلادنا أيضا ستواجه خلال سنوات وعقود مقبلة ، تحديات كبيرة، ما من شك في أنها سترفعها بالإرادة والعزيمة، مادامت السياسات واضحة ، والأهداف مقررة، وما دامت قدرة التونسيين على التأقلم مع الواقع قائمة.
المياه في المستقبل ، واحد من التحديات التي ستواجه بلادنا ، ومن المهم الوعي بها، للنجاح في الوقوف أمامها، وعي ليس فقط بين الجهات الرسمية ، ولكن أيضا على المستوى الشعبي.

















ليوم الأحد
العودة إلى  المربع الأول
بقلم عبداللطيف الفراتي *
بمناسبة انعقاد اجتماع مجلس وزراء الخارجية المغاربيين في أواخر العام المنقضي أو بعد ذلك بقليل طالب وزير الخارجية الجزائري مراد مدلسي بتحويل الإتحاد المغاربي إلى تكتل اقتصادي بصفة "وقتية".
وكان ذلك كتأكيد لما راج حول هذا الطلب الجزائري ، فقد تكون الجزائر اقترحت على شركائها في الإتحاد المغاربي الذي تأسس في سنة 1989 وتعطل عن النشاط منذ الكف عن عقد القمم الدورية في سنة 1994 ، اقترحت إذن إدخال تعديلات جوهرية على الميثاق المؤسس للوحدة المغاربية "كشرط لإعادة إحياء هياكله وضمان منحى جديد يتميز باعتماد مبدأ البراغماتية والمصالح المشتركة بدل الشعارات العاطفية التي تجاوزتها الأحداث".
وقد رددت صحف جزائرية وخاصة صحيفة الخبر هذه النبأ  وقيل إن الدول المغاربية وافقت على المقترح الجزائري باستثناء المغرب التي قدمت شروطا وافقت عليها الجزائر.
ولقد مر وقت طويل منذ أن تراجع الحماس الذي صاحب عقد  قمة مراكش في حينه، وانقلب ذلك الحماس إلى لامبالاة ، وانفراط للعقد ، إلا لدى البعض من الذين يهزهم الحنين لفكرة توحيد المغرب العربي بالتدريج ولكن بثبات، وأنا واحد منهم ما زلت أحلم ببلدان بلا حدود وانسياب للأفراد والسلع والخدمات دون قيود، وعملة واحدة لا تختلف بين بلد وآخر، كل ذلك في انتظار تحقيق الحلم الكبير، والأحلام ليس لها ثمن لا عاجل ومؤجل، أما الجمود فله ثمن وثمن باهظ يدفع بشعور أو بدون شعور، فاللامغرب له ثمن.
ثمن سياسي فادح وثمن اقتصادي مرقم.
الثمن السياسي برز في اجتماع دافوس قبل سنة الذي دعيت إليه من بين العشرين إما دول أو مجموعات معينة لوزنها وثقلها على الساحة الدولية، ومنها مصر والسعودية الممثل لمجلس التعاون الخليجي.
والمرارة في الحلق، رأينا استبعادنا لأننا منفردين لا نمثل شيئا أو شيئا يذكر، ومجتمعين لو اجتمعنا لكان يكون لنا ذكر وحيثية كما كان يقال في صحافة الأمس.
أما الثمن الاقتصادي فيتمثل في أن استمرار فرقتنا يكلف وبصورة مرقمة نقطتين فيما نسجله منفردين في نسبة النمو، وللمرء أن يقيس أهمية ذلك في نسبة النمو المسجلة عند بلداننا على مدى السنوات الماضية والمتراوحة بين 3 و5 في المائة، إذ كان يمكن أن تكون 5 أو 7 في المائة ، بكل ما يعني ذلك من تزايد الإستثمار وتطور فرص العمل.
واللامغرب يكلف كذلك ضياعا في فرص العمل تقدر سنويا بعشرات الآلاف باعتبار أن اندماجنا الاقتصادي كان يمكن أن يحقق ما يسمى  باقتصاد الأهمية حسب ترجمة معتمدة لم تعجبني تعبيرا عن العبارة المستعملة L’économie d’échelle .
ولكن ولنتوقف قليلا عند المقترح الجزائري، فلا شك أن هذا المقترح يعود بنا إلى مؤسسة اللجنة الاستشارية الدائمة للمغرب العربي والتي واريناها التراب سنة 1989 ، بمناسبة انعقاد قمة مراكش وإعلان قيام اتحاد المغرب العربي ، بعد أن كانت قد فارقت الحياة منذ سنة 1969 أي 5 سنوات بعد قيامها ، ومنعنا "الحياء" عن إصدار شهادة وفاتها ودفنها في حينه.
فاللجنة الاستشارية الدائمة التي كان مقرها في تونس ، انبعثت على أيدي وزراء الاقتصاد بين تونس والجزائر والمغرب وليبيا وكانت اقتصادية فقط دون أي خلفية سياسية ، وكان انسحاب ليبيا منها بعد ثورتها إيذانا بوفاتها، دون أن تكون قد حققت شيئا ، على اعتبار أنها كانت بلا روح ، وبلا إرادة سياسية، ورغم ذلك بقيت  20 سنة تعيش حياة نباتية كما يقول الأطباء، كمريض يحتضر ولكن الروح لا تفارقه.
هل يراد لنا اليوم أن نعود إلى نفس التجربة، وأن نتخلى عن مكسب كبير، ما زال الأمل في إحيائه قائما بعد  توقع توفق الأطراف المأمول في تجاوز خلافاتها التي لا ترقى إلى النتائج المنتظرة لو تم تحقيق اتحاد المغرب العربي.
صحيح أن أوروبا انبنت اقتصاديا قبل التفكير في بنائها سياسيا ، ولكن هل كتب لنا نحن أن لا نستفيد من تجارب الآخرين ، وأن نعيد السير على الخطى الوئيدة التي خطوها ، وكانت قائمة بينهم عداوات وحروب مدمرة ، وفروق في الأديان والمذاهب واللغات، فيما نحن قد جربنا الوحدة منذ قرون وأعطت أكلها ، ونحن نشرب من معين واحد هو معين العروبة والإسلام سواء كانت عروبة عاربة أو مستعربة.
إننا نستحق أفضل مما يراد لنا ، أن ترفع أسباب الخلافات التي تعوق قيام الوحدة، وتدفع للبغضاء والعداوة، فما ينتظرنا مجتمعين أفضل ألف مرة من وضعنا الراهن الذي تسوده الفرقة، ولعل الإرادة السياسية للقادة بإتباع المثل التونسي المؤمن بالوحدة المغاربية حتى النخاع، لعلها هي الأمل الوحيد الذي لا يدفعنا إلى النكوص عما تحقق، ولو لم يكن التوفيق كاملا حتى الآن.
fouratiab@gmail.comرئيس التحرير الأسبق  
ليوم الخميس
 الدواء المر
بقلم عبداللطيف الفراتي *
عندما تحدثنا قبل أسبوع عن التصحر الديمغرافي في بلادنا ، فإن ذلك لم يكن مجانا ، أو للحديث في موضوع قل فيه الاهتمام، بل لأن لكل شيء تبعاته وتداعياته في حياة الشعوب.
إن التصحر الديمغرافي الناتج عن قلة الولادات وقلة المواليد، مع ارتفاع مؤمل الحياة يعني ببساطة أن الهرم السكاني "يشيخ" لا بالمعنى العامي ولكن بالمعنى العربي الفصيح أي ذلك الذي تصيبه الشيخوخة.
ولقد سبق لنا أن قلنا في المقال الأول الذي نشرناه في الصباح ، بعد غياب خارج عن نطاقنا مدة 10 سنوات ، وعالجته الإدارة الجديدة بالحكمة والتبصر ، في إطار استرجاع الكفاءات التي أفنت شبابها في خدمة الوطن عبر هذه الجريدة، الوطنية – سبق لنا ان قلنا – إننا لا نلهث وراء الناس بل نتقدمهم وذلك هو دور المثقف الحقيقي.
لا علينا ، فالتصحر الديمغرافي  يؤدي حتما إلى هرم سكاني غير متوازن ، يقل فيه عدد الأطفال ثم الشباب ثم الكهول، ويتعاظم فيه عدد أفراد السن الثالثة وحتى الرابعة أي ما بعد الستين ولم لا الثمانين والتسعين.
وهذا له تبعاته التي بدأت تظهر في حياتنا الاجتماعية، متمثلة في تزايد عدد غير المنتجين لا من الأطفال أو الشباب قبل سن العمل، بل وخاصة كبار السن، ممن ندفعهم ليركنوا إلى الراحة والتعطل في سن كانت تعتبر عالية وهي اليوم عادية.
وعند الاستقلال قبل 54 عاما كان مؤمل الحياة في بلادنا لا يزيد عن 46 عاما ، صحيح بسبب الوفيات الكثيرة لدى الرضع والأطفال ، ولكن أيضا بسبب الوفاة المبكرة للكهول، مؤمل الحياة هذا حقق قفزة كبيرة بعد تغيير السابع من نوفمبر فتزايد عدد الذين تفوق سنهم الستين بسرعة كبيرة.
والنتيجة أن صناديق التقاعد باتت تواجه ضغطا متعاظما لا قبل لها به ، خصوصا ونحن نملك على الأقل في الوظيفة العمومية نظاما تقاعديا كبير السخاء، ناهيك وأن أعداد من الموظفين يجدون جراياتهم التقاعدية أوفر مما كانوا يتقاضونه وهم في الخدمة، ويبدو أن صرف 75 في المائة من جراية الزوج ـ أو الزوجة المتوفاة ـ للزوج الباقي على قيد الحياة هو اختراع تونسي قيل لي والعهدة على الراوي أنه  لا وجود لمثيل له في العالم.
ولما كان ديدننا أن لا نتملق أحدا ، ولا الجمهور العريض، فإننا نقول وبصراحة إنه جاء الوقت ودون المساس بالمكتسبات الإسراع بإجراء الدراسات الأكتوارية للنظام التقاعدي وكذلك الإسراع باتخاذ الإجراءات التي تحول ـ ونقولها بصراحة دون ـ إفلاس صناديقنا أو جعلها مرتبطة بسد عجزها بميزانية الدولة أي جيوبنا في النهاية خاصة إن كنا من الأجراء الذين ندفع أداءاتنا على دائر مليم بعكس غيرنا ـ .
إن المسألة كما أقر ليست بالبساطة الظاهرية ، ولكن ليس هناك من مفر من القيام بثلاثة إجراءات متكاملة للحيلولة دون سقوط الصناديق التقاعدية أو وضع جرايات متقاعدينا في خطر:
أولا : الضرورة القصوى لرفع سن التقاعد إلا بالنسبة للمهن الشاقة ، وهي معروفة عالميا ولن نبدع في اختراعها، حتى نتفاوض بشأنها.
بدون ذلك لا فائدة من الحديث ، ومع احترامي الكبير لفئات مهنية معينة فإن المطالبة بتقليص سنوات العمل لا يدل على روح مسؤولية كبيرة.
ثانيا : الضرورة القصوى لرفع المقتطع من الأجور سواء كان الأمر محمولا على الأجراء أو الأعراف، بدون ذلك فإن العجز في الصناديق سيكون لا فقط مستمرا بل قاضيا على كل إصلاح مأمول.
ثالثا : وبدون المساس بالحقوق المكتسبة للمتقاعدين الحاليين ، فقد وجبت إعادة النظر في المزايا التي يتمتع بها منظورو الوظيفة العمومية ممن تفوق جراياتهم التقاعدية ولو كان عددهم قليلا ما كانت عليه مرتباتهم بمجرد الخروج من حالة النشاط إلى حالة التقاعد حتى لا نقول شيئا آخر.
وإذ أعرف مسبقا أن كل هذا لا يعجب الكثيرين ، بل وسيغضب آخرين ، فإني أقول إن روح المسؤولية فقط هي التي  تدفعني للمصارحة لأن مصير بلادنا وأجهزتها الحيوية ، هي أمانة في أعناقنا ، وأننا لا ينبغي أن نأكل زرعنا أخضر أو على الأقل لا نأكله كله، وأن مستقبل أبنائنا وأجيالنا المقبلة ، وما سنتركه لهم أو لا نترك هو مسألة ينبغي أن تستثير كل الضمائر، وتلك من وجهة نظري روح المسؤولية العالية وروح الوطنية الحقيقية.
fouratiab@gmail.com
·       رئيس التحرير الأسبق                                             
·        
·        
·       القهقرى
·       عشية الاحتفال بالذكرى الواحدة والعشرين على قيام الإتحاد المغاربي المعطل منذ 1994، يجدر بالمرء أن يتذكر.
·       أن يتذكر دولة الموحدين التي قامت بتوحيد كل منطقة المغرب العربي في القرنين الثاني عشر والثالث عشر.
·       ثم خاصة مؤتمر طانجة لسنة 1958 بين الأحزاب الرئيسية المغاربية الذي وضع أسس فكرة الوحدة المغاربية كخطوة على طريق بناء الوحدة العربية. وهو مؤتمر انعقد بعد أسابيع قليلة من إنجاز الوحدة بين مصر وسوريا في إطار الجمهورية العربية المتحدة، وبين العراق والأردن في إطار ما سمي وقتها بالإتحاد الهاشمي.
·       وفي سنة 1964 حصل اتفاق بين وزراء الاقتصاد في البلدان الثلاثة تونس والمغرب والجزائر والتحقت بها بعد وقت قصير ليبيا لإنشاء ما سمي آنذاك اللجنة الاستشارية الدائمة ، التي لم تكن لها لا الأبعاد السياسية ، ولا لم توفر لها الحكومات الإرادة الصلبة للقيام بالعمل التنسيقي والتكاملي والاندماجي  لبناء المغرب العربي حتى - وهذا أضعف الإيمان -على الصعيد الاقتصادي.
·       وخلال 5 سنوات من العمل التحضيري التنظيري المكثف  في إطار اللجنة الإستشارية، تولت إعداد عشرات الدراسات الوافية لبناء صناعات متكاملة وتحقيق تكامل اقتصادي.
·       غير أن تلك الدراسات التي أسهمت في تمويلها وإعدادها كل من الأمم المتحدة والسوق الأوروبية المشتركة، لم تر أي منها النور إنجازا ، وأخذت بعض الأطراف فيها  تقول بحقها في أن تنتج لكل المنطقة المغاربية، لا لنفسها.
·       وفيما كانت اللجنة الاستشارية الدائمة تعاني من وضعيتها اللاتنسيقية ، جاء حدث آخر للقضاء عليها ففي الأول من سبتمبر 1969 حصل انقلاب العقيد القذافي في ليبيا، وباعتبار إيمانه بالوحدة العربية دون غيرها واعتباره أن المغرب العربي ووحدته تنبثق من مشروع استعماري يستهدف الوحدة العربية الشاملة، فإنه قرر وببساطة الانسحاب من اللجنة الاستشارية الدائمة للمغرب العربي، وبرغم انضمام موريتانيا آنذاك فإن الحكومة الجزائرية تعللت بفقدان التوازن داخل اللجنة الدائمة بعد خروج ليبيا، وجمدت بصفة فعلية مشاركتها، فيما تكررت تلميحات إلى أن الجزائر بصناعاتها الثقيلة والتي تشمل كل الميادين ستكتسح كل الفضاء المغاربي وحتى ما أبعد منه.
·       وستبقى اللجنة الاستشارية الدائمة وعلى مدى 20 سنة وحتى سنة 1989 عبارة عن قوقعة فارغة، فلا أحد تجرأ على حلها والانتهاء منها، ولا أحد تكرم ومد لها قشة الإنقاذ من الغرق ، فبقيت على حالها مبنى في تونس وموظفون وأمين عام وممثلون عن الدول ولكن بدون عمل فعلي ولم يعرف لها طيلة تلك المدة نشاط يذكر.
·       حتى جاءت صائفة 1988 ، وبمناسبة عقد القمة العربية في الجزائر جمع الملك فهد الرؤساء المغاربيين الخمسة الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد والرئيس التونسي زين العابدين بن علي والملك المغربي الحسن الثاني والعقيد معمر القذافي رئيس الدولة الليبية ـ مهما قيل ـ ومعاوية ولد الطايع رئيس موريتانيا ، ليدفعهم على طريق الوحدة المغاربية على شاكلة مجلس التعاون الخليجي.
·       وقد نجح الملك السعودي في رفع كل العوائق ، وخاصة قضية الصحراء الغربية التي أقنع الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد والملك المغربي الحسن الثاني بتركها للوقت المناسب، والتقدم فورا في بناء وحدة مغاربية ضرورية لتحقيق الحلم المغاربي، وضرورية لمواجهة العالم الخارجي وخاصة الجانب الأوروبي من موقع قوة, أو على الأقل من موقع المقتدر باعتبار وحدة الموقف, وبالفعل اتفقت الأطراف على النصوص التأسيسية لقيام اتحاد للمغرب العربي من الدول الخمس وتم تتويج هذا الاتفاق في مؤتمر خماسي للقمة في 17 فيفري 1989، تم خلاله إصدار إعلان مراكش العاصمة القديمة للمغرب، وفعلا بدا أن قطار المغرب العربي قد لزم سكته وتحرك ، ببطء بداية ، على أن يحث السير لاحقا، ولكن وبمغادرة الشاذلي بن جديد للحكم ثم بعده الرئيس محمد بوضياف وكان كلاهما يعتقد بأنه واجب الجميع هو  الارتفاع  فوق الخلافات الثنائية التي ستذوب في الإطار العام المشترك ، تعطل القطار عن مسيره، فلم تعقد قمة واحدة منذ قمة تونس في سنة 1994، وبالتالي تأخر اتخاذ القرارات الحاسمة، فالأمناء العامون- ووفقا لاتفاق إجماعي فإنهم يكونون من تونس ـ ينتخبون من قبل وزراء الخارجية لا القمة ، كما إن الترشح المصري لعضوية النادي المغاربي لم يقع البت فيها باعتبار أن دخول أعضاء جدد هو من صلاحيات القمة دون غيرها، إلى غير ذلك من القرارات ذات البعد السياسي الكبير.
·       ولعل آخر تطور بعد كل هذا ما اقترحه وزير خارجية الجزائر مراد المدلسي في اجتماع لوزراء الخارجية المغاربيين بطرابلس بتحويل الإتحاد المغاربي إلى تكتل اقتصادي ولو بصفة وقتية.
·       وقد تكون الجزائر اقترحت على الدول الأربعة الأعضاء معها في الإتحاد المغاربي "إدخال تعديلات جوهرية على ميثاق الإتحاد المغاربي كشرط لإعادة إحياء هياكله وضمان منحى جديد يتميز باعتماد البراغماتية والمصالح المشتركة بدل الشعارات العاطفية التي تجاوزتها الأحداث".
·       كما قد تكون البلدان الأخرى في الإتحاد قبلت بالمقترحات الجزائرية ، إلا المغرب الذي قدم شروطا قبلتها الجزائر فورا.
·       وتتمنى الرباط منذ سنوات تطبيعا مع الجزائر يمر حتما عبر فتح الحدود المغلقة منذ اعوام وهو وضع غير طبيعي بين دولتين تنتميان إلى وحدة معلنة.
·       ويرتفع سؤال حائر:عم يختلف الهيكل الجديد المقترح عن اللجنة الاستشارية الدائمة التي لم تقم بأي دور على مدى 25 سنة من حياتها بين 1964 وسنة 1989 عام اختفائها بعد قيام اتحاد المغرب العربي في 1989.؟
·       ويخشى كثير من المراقبين إلى أن هذا سيسارع بدفن الإتحاد المغاربي ، وهو مؤسسة وحدوية، تقوم على إرادة سياسية في التوحيد، متمثلين تجربة اللجنة الاستشارية للمغرب العربي سنة 1964 ذات الصلاحيات الاقتصادية الصرفة بدون خلفية إرادة سياسية واضحة، وفي مثل هذه الحال فإن الأمر ربما آل بالنسبة للوحدة المغاربية إلى الآجال اليونانية كما يقول المثل الفرنسي وهي آجال ليست محددة بزمن.
(يتبع بقية المقالات في حلقات مقبلة..)
























ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق