من أرشيفي الخاص في
جريدة الصباح 4
|
ينقله عبد اللطيف الفراتي
أرشيف أفريل 2010
الوسط/ 14/02/2014
نواصل اليوم بعد انقطاع دام عدة أسابيع نشر، أرشيفي الخاص مما تم نشره
في جريدة الصباح في سنة 2010، بعد عودة للكتابة في الجريدة، إثر 10 سنوات من
"المنفى" تم استبعادي فيها، على إثر طردي في 4 سبتمبر 2000، من قبل
الإدارة التي استلمت الصحيفة في تلك الأيام السوداء التي قادت صحيفة من وزن الصباح
وتاريخها ، إلى متاهات سواء من جهة المحتوى أو التصرف، بعد ما بلغ بها المؤسس
الحبيب شيخ روحه من رفعة وعلو قدر وتأثير.
وفي ما يلي مجموعة أخرى من المقالات مما نشر في شهر أفريل 2010:
**
الصباح ليوم الأحد 4 أفريل 2010
أين القصور ؟
بقلم عبداللطيف الفراتي *
بلغ الإنتاج التاريخي الحديث والمعاصر
لفترة الكفاح الوطني، حجما كبيرا ، تواجد في التسجيلات الصوتية ، وتوافر بين دفات
الكتب والدوريات العلمية.
وقد تولى معهد الحركة الوطنية ملاحقة
الأحداث التي عرفتها البلاد خلال قرن ونصفا أو يزيد ، كما كان لمؤسسة الدكتور عبد الجليل التميمي للبحث إسهامات
مشكورة كثيرة علمية ، وقامت شهادات موثقة جديرة بأي بلد متقدم.
وأخذ يبدو أن تاريخنا الحديث والمعاصر حافل
بالأحداث الجسام التي تشهد بقيمة هذه البلاد، وما اعتمل فيها من تطورات تشهد
لرجالاتها وزعاماتها بما حملت بين جنباتها من قيم التضحية ولكن أيضا العبقرية
والشجاعة.
غير أن هذا الإنتاج الضخم بقي رازحا بين دفات الكتب والدوريات أو ضمن التسجيلات الصوتية والمرئية، أي مقصورا
على نخبة ضيقة من الذين تتاح لهم القراءة العلمية ، أو من أولئك الذين يتوفر لهم
الفضول العلمي للمتابعة والملاحقة.
وبعكس بلدان أخرى فإن هذا الإنتاج لم ير
النور من خلال إبداعات سواء وثائقية أو أفلام وشرائط سينمائية أو تلفزيونية تنشره
على نطاق واسع، وتحول مضمونه من أسر الكتب والوسائط الأخرى إلى الجمهور العريض عبر
إبداعات سينمائية تبقى في المتناول لتوافر المادة.
وللمقارنة ينبغي للمرء أن يقف عند تجربتين
ماثلتين للمعاينة من حولنا:
1) أولهما المثال
الفرنسي، الذي حول كل الحقبات التاريخية الفرنسية إلى أفلام أعطت لوجهة النظر الفرنسية عمقها العملي، وكيفت الأحداث وفق منظورها، وفي ما يهمنا فإن
حادثة "بواتيي"Poitier التاريخية والتي تمثلت في إيقاف الزحف العربي في
فرنسا على أيدي شارل مارتين، قد أشبعت إنتاجا سينمائيا وتلفزيونيا حاملا لوجهة
نظر، يقال إنها لا تتفق والوقائع التاريخية المجردة، فيما إن هذه الحادثة تهمنا
باعتبار أن الجيوش التي اقتحمت فرنسا وكادت تخضعها هي جيوش انطلقت من الأندلس وكان
قوامها من المحاربين، مغاربيون بمن فيهم من التونسيين.
لكن
الإنتاج الفرنسي انطلاقا من المعطيات التاريخية لم يقف عند هذا الحد بل إنه شمل كل
الأحقاب التاريخية ، وحول الإنتاج الإبداعي القصصي من جهة والإنتاج التاريخي
وإنتاج السير ( بكسر السين وفتح الياء) إلى أفلام ومسلسلات لا تدخل تحت حصر ولا
عد.
وقد
انتهز اليهود الفرنسيون الفرصة فأحالوا جهاز التلفزيون الفرنسي والصناعة
السينمائية الفرنسية إلى أدوات للدعاية اليهودية، فلا يخلو أسبوع من بث أفلام عن
المحرقة في الحرب العالمية الثانية استدرارا للعطف وتبريرا للعدوان الإسرائيلي
المتواصل.
2) وثانيهما المثل
المصري الذي استبطن الأحداث التاريخية ، وقام بإنتاج أعداد من الأفلام السينمائية
شملت أحقاب مهمة من تاريخ الأمة العربية، ولكنه قام أيضا بتخليد رجال عظام طبعوا
تاريخ مصر الحديث والمعاصر، وحتى بعض الشخصيات العربية الكبيرة، هذا عدا الفنانين
والأدباء ورجال الدولة، من عبدالناصر إلى أم كلثوم إلى محمد عبدالوهاب ، إلى قاسم
أمين الذي كنا أولى ببثه باعتباره أول من دعا من العرب لتحرير المرأة، وكان سابقا
للمصلحين التونسيين بمن فيهم الطاهر الحداد.
غير أنه
لا القنوات العمومية ولا القنوات الخاصة، قامت ببث هذا المسلسل الذي كان الأجدر
بثه في بلدنا ، أفضل من تلك المسلسلات
الهابطة سواء مصرية أو تركية قامت على
ميلودراما ساذجة وجمال بنات وشباب بدون مضمون يستحق الوقوف والتوقف.
لا علينا
، إن موضوعنا اليوم هو ما يهم كيفية تحويل تاريخنا عموما وتاريخنا الحديث والمعاصر
إلى أعمال إبداعية أو تسجيلية سينمائية وتلفيزيونية جديرة بعبقريتنا.
وبدل
الكثير من التفاهات يمكن لكتاب السيناريو عندنا وكذلك المخرجين أن ينكبوا على كل
الإنتاج التاريخي لمعاهد ومؤسسات البحث ليستخرجوا منه دررا صالحة لأن تربط المواطن
بتاريخ بلاده، وتجذره في واقعه الذي عاش فيه هو وأجداده، وتعيد إليه ثقته بنفسه
عملا بالمقولة التي تقول إن من لا تاريخ
له لا مستقبل له.
وسواء
بالنسبة للشخصيات فإن تونس حافلة ، من كفاح بورقيبة وصالح بن يوسف وفرحات حشاد
والهادي شاكر أو غيرهم كثيرون ، إلى نضال علي الرياحي وعلي بن عياد وصليحة
والدوعاجي والهادي العبيدي وجماعة تحت السور وغيرهم ممن يعدون بالعشرات أمثال
الشابي والطاهر الحداد ومحمد علي الحامي ، وكلهم قدموا للبلاد خدمات جلى . أو
كذلك للأحداث فإن الخيار عريض من أحداث
تازركة إلى وقائع المعارك مع الإستعمار في الجبال والسفوح ، إلى معركة بنزرت إلى
واقعة ساقية سيدي يوسف، وليس من صعوبة في
نسج قصص من تلك الأحداث وحولها يجري تحويلها إلى سيناريوهات قابلة للإخراج
السينمائي والتلفزيوني.
إن
المادة الخام متوفرة ، مركونة على الرفوف وليس من صعوبة في نفض الغبار عنها ،
وتحويلها إلى إبداعات سينمائية في متناول
كل الناس ، يعرفون من خلالها بلادهم ورجالاتها ، ويدركون أن لها ماض جدير
بالإفتخار.
· رئيس التحرير الأسبق
للنشر
يوم الخميس 8 أفريل 2010
فوضى
الأسماء
بقلم عبد
اللطيف الفراتي *
لست أدري
كيف يتم تنظيم مسألة أسماء الأفراد عند جيراننا ، ولكني أعرف أن فرنسا خاضعة في
تسمية الناس لأبنائهم لمقاييس مضبوطة ، وحدود معينة.
ولقد سبق
لتونس أن قامت بعملية تنظيف أولية بعيد حصول البلاد على استقلالها شملت الأسماء
العائلية ، فاستبعدت أسماء معينة وثبتت أخرى.
فغابت
أسماء إن بموجب النصوص أو بتدخل شخصي من رئيس الدولة آنذاك وعلى كل الفترات
بمناسبة اعتراضه لتسميات لم تكن تنال رضاه.
وعادة ما
يكون المرء راضيا باسمه ، متعودا عليه، وحالات استبدال الإسم في المحاكم قليلة جدا
وهي تهم غالبا الإسم الشخصي لا التسمية العائلية.
و مما
أذكر أن من التسميات التي وقع التدخل من
طرف الرئيس بورقيبة لاستبدالها اسم "بائع رأسه" ، كما كان للرئيس
بورقيبة يد في تغيير اسم الأعور إلى
الأنور واسم المذبوح إلى الممدوح.
وكما تم
تغيير أسماء الأفراد ، جاءت مرحلة تمت فيها تسمية المدن، بأكثر أو أقل توفيقا، وفي
ما عدا التسميات الفرنسية التي اختفت وتركت مكانها لتسميات تونسية
مثل
فيريفيل ( على اسم رجل السياسة الفرنسي الذي وقع احتلال تونس في فترة توليه رئاسة
الوزراء جول فيري على يديه، وهو اسم أطلق كذلك في حينه على أكبر شوراع العاصمة
التونسية أي شارع الحبيب بورقيبة لاحقا) التي تحولت إلى منزل بورقيبة، فإن أسماء معينة سريعا ما
استبدلت فبدل ترياقة اطلق على المدينة اسم منزل شاكر.
وفي
مرحلة لاحقة استبدل اسم سوق الأربعاء بتسمية جندوبة واسم سوق الخميس بتسمية
بوسالم، فيما إن تغيير اسم سيدي بوزيد إلى قمودة لم يكن موفقا ،فلم يقبل به سكان
المدينة ولا الولاية بسبب العروشية ، واضطرت السلطة حينذاك للعودة للتسمية القديمة
أي سيدي بوزيد.
والأمثلة
كثيرة، وإن كانت أسماء عدد من مدننا أو قرانا بقيت في حاجة إلى مراجعة.
غير أن
هذا ليس موضوعنا اليوم ، حيث ينصب الإهتمام على تسمية الأشخاص سواء ما يهم الأسماء
الشخصية أو أسماء العائلات.
و من
المؤكد أن هناك تسميات غير لائقة جديرة بأن تقع إعادة النظر فيها، ومنها ما يبدو قبيحا وحتى غير أخلاقي عند الإنتقال
إلى بلدان شقيقة.
وفي عصر
المواصلات السريعة يبدو أن الأمر يتطلب من أصحاب هذه الأسماء أن يتفطنوا إلى
الإحراج الذي يسببونه لأنفسهم وإلى غيرهم وخاصة من السيدات عندما ينتقلون إلى بعض
البلدان الشقيقة.
على أن
فوضى الأسماء الشخصية تبدو الأكثر بروزا، فهناك أسماء غريبة أو لها دلالات لا
يدركها أصحابها أو تلك التي يحملونها ويتألمون منها، مثل بعض أسماء الحيوانات،
وإني لأذكر الخصومة التي قامت بين الزميل المرحوم محمد محفوظ مدير جريدة لا بريس وبين بلدية تونس على حد ما ذكره
لي في حينه.
فقد قر
عزمه على تسمية ابن له "رمسيس"، وكان مغرما إلى حد كبير بالمخرج المصري
الكبير رمسيس نجيب ، غير أن عون البلدية رفض قبول الإسم وامتنع عن تسجيل الطفل،
ورغم مرور العشرة أيام التي يقتضيها تسجيل الأبناء، فقد بقي الطفل رسميا بلا اسم.
وكان لا
بد للقضاء من الفصل في الأمر دائما والرواية للزميل ، وتم تثبيت الإسم بقرار قضائي
بعكس ما ذهبت إليه البلدية.
غير أن
البلدية إن اجتهدت في الإمتناع عن تسجيل اسم هذا الطفل ، فإنها تقوم يوميا بتسجيل
أسماء غريبة أو غير متناسبة مع اللغة العربية أو منحدرة من أصول فرنسية، أو إنها
خاطئة إما في نطقها أو في رسمها. وهناك امرأة تحمل اسمها مستاءة، وهي وإن أسماها
أبوها نائلة فقد كتب العون الأسم نيلة على أساس أن حرف الياء مجزوم ، وهي ما زالت
تحمل مضطرة على بطاقات هويتها وجواز سفرها ذلك الإسم الغير مرغوب فيه.
وقد
تكاثر ما رأيته من أسماء محامين وعدول وخبراء وأطباء يسمون "عدلان" (أي
شاهدين) ، والإسم الصحيح والتاريخي هو عدنان ولكن تحريفا حصل في الإسم نتج عن خلط
في الحرف وخاصة من قبل الأمهات أو الجدات
كأن يقال عدلان بدل عدنان وسيراج بدل شيراز ، وهو اسم دارج أو كان دارجا
بين الأميين وخاصة الأميات وجاسم بدل قاسم ، وهو تحريف ناتج عن اعتماد اللهجة
المصرية حيث يقع نطق قاسم بالجيم المعطشة ثم يكتبها البعض بحرف الجيم بدل القاف،
على غرار إمارة الشارجة والصحيح الشارقة.
هذه
الفوضى إذن في حاجة إلى تصحيح، ومن الأفضل أن يتم ذلك تلقائيا ، ولكن وإن لزم
الأمر فعلى الأقل وجب تقنين كتابة الأسماء ، ما يكتب وما لا يكتب، ما ينطق وما لا
ينطق بالنسبة للمراحل المقبلة، فالمعلوم أن الإسم هو ألصق شيء بالمرء ، وهو ليس
فقط دلالة على الشخص وإثبات لهويته بل هو
من الناحية العملية السمة البارزة لكل عقوده ما اهتم بزواجه مثلا أو بالنسبة
لإثبات ملكيته، وما يطرأ على ما يشتريه أو يبيعه ، مما يعقد حياته.
ولكن لا
بأس من أن ينظم الأمر على أسس قويمة بالنسبة للمستقبل.
· رئيس التحرير الأسبق
تحية
ليوم الأحد 18/04/2010
المبرات الثقافية والإجتماعية
بقلم عبداللطيف الفراتي *
في فجر الإستقلال ، وفي إطار
الإصلاحات الكبيرة التي تولتها حكومة البلاد، جاء حل الأحباس والأوقاف في محله.
وكان القصد هو إعادة الأحباس عامة
وخاصة إلى الدورة الإقتصادية ومستوى الإنتاج، وتوفير قاعدة كانت مستثناة من الحياة
الخاصة والعامة.
إلا أن الواقع كان دون القصد، ففي
مستوى الأحباس الخاصة مرت سنوات طويلة قبل أن يقع البت غالبا في مستوى المحاكم في
الإستحقاقات، أما الأحباس العامة فقد تم تشتيتها سريعا بين من يستحقون ومن لا
يستحقون من مغارسية وغيرهم من المناضلين ، والباقي عاد للدولة التي عادة ما لا تعرف
كيف تتصرف، والجهات الحكومية ليست مهمتها كما دلت كل التجارب في العالم تولي القيام بالأعمال الإنتاجية فلاحية كانت أو
تجارية أو صناعية ، بدل المهام النبيلة للتصورات والبلورة وضبط السياسات
والإستشراف.
وبعد أكثر من 50 سنة على ذلك
"الإصلاح" فات الوقت للتقييم على الأقل في مثل هذه العجالات من المقالات
الصحفية.
غير أن الأحباس أورثت الرئيس بورقيبة
نوعا من العداء لها، مهما كان شكلها، وإذ منع عودتها ولا شك أن له حق في ذلك، فإنه
منع أيضا قيام المبرات التي هي شكل عصري من أشكال النشاط الإجتماعي FONDATION .
فلقد حفلت البلاد في السابق بالأحباس
ودون الأحباس ، بدُور ومحلات ما يسمى بالخيرية في كل المدن الكبرى، كانت
تقدم خدمات اجتماعية جُلى في الأعياد والمناسبات ، وكان يقع تمويلها من قبل
الميسورين ، وتصرف مخزوناتها للمعوزين ، في وقت لم يكن فيه للأجهزة الرسمية أي دور
في الإسعاف.
وفي خضم حل الأحباس أغلقت هذه المبرات
، وانتهى دورها، ولم تعد تعاضد مؤسسة التضامن الإجتماعي التي لا يمكن أن تشرق على
كل مواطن الفقر والعوز.
وشلت الإرادة الحكومية مؤسسات كانت
تلعب دورا اجتماعيا لم يقم أحد بمثله ، فتم إغلاق مكتبات عمومية ، وانتهى دور
مؤسسات كانت تسعف طلبة كانوا يأتون من الأصقاع ، وما كان لهم أن يتموا دراساتهم
لولاها، بل وكان بعضها أي المبرات يفتح
المدارس ويدفع مرتبات معلميها وينفق على تسييرها.
وكما حصل في مجال الثقافة ، حيث أنهي
عمل جمعيات نشيطة كانت مبثوثة في كل أنحاء البلاد ، واستعيض عنها باللجان الثقافية
فانتفى العمل التطوعي المتحمس، فإن
الجمعيات الخيرية والمبرات الأهلية غابت من الساحة وغاب أثرها المتميز.
ولعله جاء الوقت لنسأل أنفسنا: هل كان
كل ذلك إيجابيا فعلا ، ولماذا تم تشبيه تلك المؤسسات التي كانت تشكل شبكة مدنية
بالأحباس فتم القضاء عليها وعلى دورها؟
وإذ لا يكفي التساؤل: فلنا أن نتساءل رغم ذلك مع المتسائلين : لماذا لا
نعود لسن قانون يؤسس لمبرات ثقافية واجتماعية أهلية أو ما يطلق عليه بالفرنسية DES FONDATIONS تتولى
تأطير مجموعات من المواطنين للنشاط في مجالات ثقافية وخيرية ، على أن تكون وهذا
شرط أساسي بعيدة عن أي نشاط أو حتى توجه سياسي، وتكون خاضعة باستمرار لرقابة
السلطة وأوامرها ونواهيها.
وإني لأذكر أن مثل هذه المبرات لا
يحصيها عد في الولايات المتحدة ، كما في ألمانيا أو بريطانيا والبلدان
الإسكاندينافية.
ففي أوستن عاصمة التكساس ، وحيث توجد
أكبر جامعة حكومية في الولايات المتحدة، وكنت في زيارة لها، في نطاق بحث حول كيفية
اتخاذ القرار في أمريكا ، ولمن يعود ذلك، فقد كنت على سابق معرفة بالأستاذ
البروفسور الكبير كليمنت مور ، ودعيت إلى حفل قدمت فيه مبرة فورد FORD FOUNDATION إلى
الأستاذة الجامعية الأمريكية من أصل فلسطيني ، فدوى المصري منحة بمبلغ 300 ألف
دولار للقيام ببحث في ثلاث بلدان عربية هي مصر وسوريا وتونس، حول العمل الأدبي الإبداعي لدى الاسلاميين ، وفعلا فلقد استقبلت شخصيا الأستاذة الكبيرة المصرية لما جاءت آنذاك قبل أكثر من 20 سنة إلى تونس،
وكانت تنفق من تلك المنحة على سفرها وإقامتها ودعواتها، وعلمت لاحقا أنها أنجزت
عملها وكان تقريرا ضخما موثقا وإن لم يساعدني الحظ للإطلاع عليه.
ومنذ ذلك الوقت وأنا أتساءل لماذا لا
نقدم على خطوة إنشاء مثل هذه المبرات عن طريق الأفراد في ظل قانون مخصص ، وهي ليست
جمعيات تطوعية بالكامل ، ولا شركات
ربحية، كما إنها ليست أحباسا نخاف أن تعيد
لنا شبح الأحباس إذا كان للأحباس أشباح، بل
مؤسسات ذات بعد بين بين تكون في خدمة الثقافة أو التحركات الإجتماعية
باعتماد مبادرات أهلية، وحق في التحرك وجمع الأموال من الخيرين من الناس ورصدها
واستثمارها لإغراض إما ثقافية أو اجتماعية أو كذلك الحصول على أملاك توظفها لفائدة
أنشطتها في إطار من الشفافية والوضوح.
إن التجارب ماثلة أمامنا، فما علينا
إلا أن نرتوي من نبعها الفياض، ولنا في مؤسسات عديدة أمثلة لما يمكن أن نجعل منه
تجارب ناجعة في هذا المجال ، وأسوق على سبيل المثال مؤسسة التميمي للبحوث أو منتدى
الجاحظ أو غيرها كثير.
وإذ يحتاج هذا إلى تشريع يضبط الحدود
والضوابط ، فإن النفع العام يحتاج لهذه الصورة من صور التنظيم الذي ينبغي أن يكون
خاضعا لمقاييس واضحة جلية لا غبار عليها.
· رئيس التحرير
الأسبق
ليوم الخميس 22 أفريل 2010
أجور وإنتاجية
بقلم عبداللطيف الفراتي *
سألني سائل بعد أن عدت للكتابة في
جريدتنا الغراء الصباح عبر رسالة عادية، مطولة، أنت تتحدث عن كل شيء، فما بالك لا
تتحدث عن الأجور وتدنيها في بلادنا، وما الذي يمنعنا من أن نصرف أجورا مثل تلك
التي نراها في فرنسا أو غيرها من البلدان المتقدمة؟
ولقد تهيبت كثيرا قبل أن أستجمع
شجاعتي وأقرر خوض الموضوع وتناوله بكل صراحة، ولو في عجالة ، تهيبت لا خوفا من
المواجهة، فلقد آليت على نفسي منذ زمن بعيد أن لا تكون الشعبوية هي رائدي ، وأن
أصارح بما قد يؤلم، وقد يحز في النفس لأن العلاج الصحيح والتشخيص الأصح يمر حتما
عبر المعرفة الدقيقة لنوع المرض، أن يكذب المرء على طبيبه أو أن يخفي عنه أشياء
فذلك ، ليس من شأنه أن يؤدي إلى معرفة الإصابة فكيف بعلاجها.
لست بالطبع طبيبا، ولكني أيضا لا أريد
أن أكذب على الناس ، أو أن أبيعهم أوهاما.
فبعد المقال الذي كتبته عن التقاعد،
يوم الخميس 11 فيفري 2010، لامني عدد من الأصدقاء، وعاتبني آخرون، وهاجمني عدد من
المعارف والذين لا أعرفهم بكل وسائل التواصل، وقال لي أصدقاء ما الذي دفعك للحديث
في موضوع يكاد يكون محرما الحديث فيه، وقال لي آخرون إنك تبحث كما كنت دوما على
"الشبوك" ألم تكفك 10 سنوات من الغياب عن قرائك، وآخرون اتهموني بأني
أجري في ركاب السلطة، وأعبر عما تود أن يعبر عنه آخرون مكانها، والواقع أني لا هذا
ولا ذاك ولكني سميت الأشياء بأسمائها، كما أراها، وكما تتبدى في الواقع، فأنظمتنا
التقاعدية هي إذا استمر الحال على ما هي عليه إلى إفلاس، وقد تتحمل الدولة عجزها
عاما أو عامين أو حتى عقدا من الزمن ، ولكنها لا تستطيع أن تتحمل إلى ما لا نهاية،
ثم ما هي الدولة ،؟ وهل لها بئر بلا قاع تغترف منه الأموال بلا حدود،؟ وهل آن
الأوان لندرك أن الدولة ليست سوى شخص معنوي سامي جدا فوقنا كلنا بمهابته، ولكن
أموالها من جيوبنا عبر الضرائب والأداءات أساسا.
إذن عندما أتحدث عن تقاعدنا نحن
المتقاعدين اليوم ، إخوتنا الأصغر منا غدا ، وأبناؤنا بعد غد، فإنه لا بد أن ندرك
، أن الأمر أمر مداخيل معينة محددة ، تقابلها نفقات معينة محددة، وأن واقعا
ديمغرافيا جديدا ومتفاقما يكيف كل شيء، ينبغي أن نأخذه في الإعتبار، وهذا يفترض
حسابات لا يمكن أن تغيب عن نظر النابهين منا، وروحا من المسؤولية عالية ، بعيدة عن
كل شعبوية أو ديماغوجية.
ولقد جاءت الندوة الصحفية للوزير
الناصر الغربي ، هذا الرجل المتمرس، الجمعة 9 أفريل 2010
(1) لتبرز صحة ما قلت وما ذهبت إليه ، لم أسبق الرجل ، ولا اعرف لا أكثر
وأكيد أقل منه ، ولكن باستعمال معطيات متاحة لكل الناس ، وهي معروفة يمكن لأي
الرجوع إليها ، انتهيت إلى استنتاجات اعتبرها البعض مرة. وهي للواقع كذلك.
لا علينا، فاليوم سأزيد الأمر غوصا
بالنسبة لأصدقائي المشفقين علي، وللذين يعتقدون أنني أطرح مواضيع علي غير وجهها.
وما دام هناك من استفزني بشأن الأجور
فلأتوكل على الله وأطرح وجهة نظري.
أولا لنسأل أنفسنا : ما هو الأجر؟
الجواب البديهي ، هو مقابل على العمل
الذي يؤديه الفرد.
هذا واضح ، ولكن هل هو واضح أيضا، أن
الأجر كلفة للمؤسسة سواء كانت عمومية أو خاصة، يكيف أسعارها، وقدرتها على
المنافسة.
ولست في مجال إلقاء الدروس فهذا
التعريف يمكن للواحد منا أن يجده في أي قاموس مهما كان صغيرا ، إذا اعتنى ببحث
صغير.
وما دام الأمر كذلك فلماذا إذن هذه
الفوارق الكبيرة في الأجور ؟ بيننا وما بين في بلدان أخرى؟
ينبغي أن نعود إلى أمرين اثنين:
أولهما حجم الثروة الوطنية الموزعة
متمثلة في الناتج الإجمالي.
وثانيهما إنتاجية العمل.
وطبعا فليس الأمر متماثلا بالنسبة
للثروة الوطنية، ولا وجه للمقارنة بيننا وبين فرنسا أو إيطاليا أو الكويت أو
الإمارات.
ولكن سأتوقف عند إنتاجية العمل، وهنا
مكمن لا بد من تحليله، والغوص فيه.
وللأسف فإن إنتاجية العمل عندنا ضعيفة
جدا، ليست بالطبع مماثلة لتلك التي وصفتها الأجهزة الدولية في دول مثل باكستان حيث
إن العمل الفعلي في الدوائر الحكومية لا يتجاوز معدلا بضع عشرات الدقائق من 8 ساعات من المفروض أن
يقضيها المرء في تلك الدوائر وينتج فيها.
ولكنه عندنا ليس بالمستوى المراد.
ولا يعود ضعف فترة العمل الفعلي سواء
في الدوائر الحكومية أو حتى في القطاع الخاص لمسؤولية يتحملها العامل وحده ، بل
وخصوصا تنظيم العمل وضعف التأطير وعدم تحديد المهام وعدم ضبط الأهداف الكمية
والنوعية للجهد المبذول ، وهذه كلها غير ملقاة على عاتق العامل..
ويبدو واضحا هنا أن ما نعتبره ميزة
عندنا من تهاود كلفة العمل، لا تمثل مثل ما نعتقد ميزة فعلية لقلة إنتاجية، مردها عدة أسباب تحتاج للمعالجة
ويبدو العامل ضحية لها أكثر من أن يكون متسببا فيها.
ومن هنا جاءت الأسباب الحقيقية
لانخفاض الأجور، وبقدر ما تقدر بلادنا وحتى بلداننا على رفع إنتاجية العمل، بقدر
ما يتم خلقه من ثروات، بقدر ما يمكن أن ترتفع الأجور دون أن تدخل على الإقتصاد
اختلالات غير قابلة للسيطرة.
· رئيس التحرير
الأسبق
------------------------------------
(1)الصباح عدد الجمعة 9 افريل 2010
تحية طيبة
مقال ليوم الأحد 11 أفريل 2010-04-07
الرموز
بقلم عبداللطيف الفراتي *
بعد المقال الذي توليت فيه التعرض "للقصور"
في تناول أحداثنا وشخصياتنا ، تناولا إبداعيا سينمائيا وتليفزيونيا ، بعد توفر
المادة الغزيرة ، وهو المقال الذي حرك الكثير من السواكن ، وتلقيت بشأنه المكالمات
التليفونية ، والرسائل القصيرة وحتى الرسائل الإليكترونية ، أواصل وفي نفس السياق متعرضا للرموز في حياتنا ، وكيفية التعامل
معها.
وما من شعب يقوم على مرتكزات حضارية وثوابت
أخلاقية إلا وخص رموزه بما يستحقون من تقدير وإجلال، باعتبارهم يمثلون جزء كبيرا
من تراثه و من ماضيه ، ومن شخصيته التي تم نحتها من خلال أفعال وأعمال قامت بها
أجيال متعاقبة من أبنائه.
وما الإحتفال بالذكرى العاشرة لوفاة الرئيس
الحبيب بورقيبة ، إلا دليل على تجذر هذه البلاد في بعدها الحضاري ، وإبراز لقدرتها
على الوفاء.
وسيذكر التاريخ أن الحبيب بورقيبة ، يمثل
لحظة فارقة في مسار هذه الأمة ـ ونقول أمة قصدا وبإصرار ـ ، وهو من كبار الرجال الذين
يجود بهم الزمن كل عدة قرون مرة ، فيبصمون
على جبين شعوبهم ببصمة لا تمحي. ويتركون للاحق من الأجيال أثرا عميقا في إطار ما نزعم عن حق من أن عبقرية تونسية لا
شك فيها تقود دائما خطى بلادنا.
وقد تتفق وقد لا تتفق مع سعيه وسياساته، ولكن
المرء لا يمكن إلا أن ينحني أمام ما صنعه لبلاده ، سواء بالتضحية أيام كفاح لم يكن
أحد يعرف مصيره ، وجاء استمرارا وتواصلا لما سبقه، ولكن بأساليب جديدة أكثر نجاعة
، أو خلال فترة بناء الدولة عبر تصور مجتمعي واضح محدد المعالم، هو الآخر استمرار
ا وتواصلا لقرن ونصف من الإصلاح والنهوض الإجتماعي والإقتصادي، ولكن باعتماد وسائل
الدولة المستندة إلى سياسات ترتكز على برامج محددة سلفا ، مخطط لها مضبوطة مراحلها
، ومآلاتها وتصور مجتمعي واضح المعالم.
وعلى أهمية الحبيب بورقيبة في تاريخنا
المعاصر ، وهو رجل سيفرد له التاريخ سفرا
كبيرا فإن خاصية هذه البلاد أنها أنبتت ورعت وصاحبت بروز رجالات وسيدات كان لهم أثر وأي أثر في رسم صورة
تونس ومسيرتها ومآلها.
إن بلادا أنجبت حنبعل وإميلكار بركة وسان
أغسطينوس والكاهنة وتبنت واستوعبت عقبة بن نافع ، ثم احتضنت بن خلدون وأعطت الفرصة
لابن الجزار ورعت في العصر الحديث والمعاصر أحمد باي وخيرالدين والجنرال حسين وباش حانبة والثعالبي
والقليبي ومنصف باي وفرحات حشاد والهادي
شاكر والطاهر بن عمار(...)لجديرة بأن تتخذ مكانا لها تحت الشمس وتفخر بخصوبتها
وإيجابية تلك الخصوبة، فلم تكن لتمر حقبة من الزمن إلا وقد جادت أرضها المعطاء
بأسماء بارزة، شقت بعبقريتها الأسماع وطبقت الآفاق.
هؤلاء وغيرهم ممن لا يتسع المقام لأذكرهم
جميعا ، وتقصيري شديد من هذه الناحية ، يعتبرون رموزا ، شموسا ساطعة في سماء
تتلألأ نجومها ، في أرض غير جدباء بل شديدة الخصوبة بالرجال يشهد على ذلك تاريخها
الطويل الممتد على أكثر من ثلاثين قرنا أو ثلاثة آلاف سنة حافلة ، قدمت فيها
للحضارة الإنسانية إسهامات بارزة وطبعت أحقاب كثيرة من التاريخ الإنساني
بعطاءاتها.
وبلد بمثل هذه الرموز عددا وتأثيرا لا بد
أن يرتفع إلى مستويات عالية من السلوك الحضاري.
وبقدر ما ينبغي أن يخضع له عمل الرموز،
والسعي إلى البحث والتدقيق والتقييم لما
قاموا به ، وحتى النقد ، فهم بشر وكل عمل بشري يتميز بنواحيه الإيجابية حينا
وبنواحيه السلبية حينا آخر، بقدر ما ينبغي أن نحافظ لهم على مكانتهم السامية
باعتبارهم قدوة يقتدى بها، فنترفع عن
تجريحهم أو تجريح أشخاصهم .
ولقد تمت الملاحظة وبكل ألم أن البعض منهم
يتعرض من حين لآخر إلى ما لا يليق من القول، وإلى ما لا يليق من التجريح، وإلى ما
لا يليق من النيل.
وإذ
لا بد للمرء في هذا العصر كما في كل العصور أن يكون من
دعاة حرية الكلمة والتعبير ، وإطلاقهما بالكامل
بعيدا عن كل مظاهر الرقابة سواء الذاتية أو المتسلطة ، فإن الحرية تقتضي
كذلك التحلي بما يفترض من الأخلاق العالية ومن روح المسؤولية والسمو.
ليس لأحد أن يكون فوق مستوى النقد ، هذه
حقيقة تكاد تكون مطلقة، ولكن أيضا ، ليس لأحد أن ينال من الرموز سواء من الأحياء
أو الأموات لسابق دورها ، بالتعرض لخصائص حياتها الخاصة ، فهي أي الرموز ملك للجميع وبالتالي فإن الحرص عليها
هو حرص على الوطن من أن يناله ما من شأنه أن يحط منه عبر النيل من رجاله.
والقاعدة العامة هي التزام الأخلاق L’ETHIQUE
في كل ما يصدر وينشر ويكتب ويقال.
*رئيس التحرير الأسبق
مقال ليوم الخميس 15 افريل 2010-
شيعة
بقلم عبداللطيف الفراتي *
أثارت تصريحات شيخ جامعة الأزهر
الجديد الدكتور أحمد الطيب الذي يعتبر
أكبر مرجع سني في العالم اليوم، أو على الأقل هذا هو اعتباره في مصر وفي العالم الغربي ، بشأن التشيع رد فعل
شديد من قبل إمام الجامع الكبير في قم التي تسعى لفرض نفسها كعاصمة للشيعة بدل
كربلاء والنجف حيث المراقد المقدسة.
وفي محاولة سريعة للإحاطة لا بد من القول
أن الشيعة( و يمثلون حوالي 15 في المائة
من مجموع مسلمي العالم) فيما يبلغ
عدد المسلمين حسب المصادر ما بين مليار و300 مليون إلى مليار و500 مليون
،يمثل المسلمون إذن 20إلى 25 في المائة من
جملة سكان المعمورة.
وينقسم الشيعة( 15 في المائة من عدد
المسلمين) إلى عدة فرق أكبرها الشيعة الجعفرية أو الإثني عشرية والتي تمثل حوالي
75 في المائة من الشيعة في مجموعهم (180 مليونا)، وهي تلك المرتكزة قيادتها في
المراقد المقدسة أي في أواسط العراق وتنتشر في العراق وإيران ولبنان ومنطقة الخليج
باعتبارهم أقلية فيها ، والتي تسعى إيران منذ ثورة الخميني إلى نقلها أو نقل مركز
ثقلها إلى قم غير بعيد عن العاصمة طهران.
غير أنه توجد عدة فرق شيعية قد لا تدخل عند
حصر، ولكن أهمها هي الشيعة الإسماعيلية التي تتوقف في اعترافها بعد الإمام جعفر الصادق، بالإمام إسماعيل المبارك وهو الإمام السابع بعد علي صهر الرسول، بينما
يذهب الشيعة الإثني عشرية للإعتراف بالإمام موسى الكاظم والسلسلة الموالية حتى
الإمام الثاني عشر( المهدي) والموعود بالعودة للأرض، ولقد خبرنا في تونس الشيعة
الإسماعيلية ، فالفاطميون الذين حكموا
البلاد وفرضوا مذهبهم هم من تلك الفرقة، وفي ما عدا هؤلاء وأولئك هناك الشيعة
الزيدية الموجودة في اليمن الشمالي وهي فرقة أقرب للمذاهب السنية، فيما الشيعة
العلوية أو النصيرية توجد في سوريا ولبنان وفي إسرائيل ، وهي فرقة من الغلاة كما
يقال ، و تحتكر حكم سوريا منذ أكثر من 40 سنة ، رغم أنها أقلية ولا يتجاوز عدد
أفرادها 5 إلى 6 في المائة من السكان.
ومنذ قيام الثورة الإيرانية بقيادة الخميني
في أواخر السبعينيات ، نشطت حركة تبشير شيعية ، تستهدف "الدخول في
الإسلام" أي الدخول في المذهب الشيعي ، وشملت عددا من البلدان العربية خاصة
في كل شمال إفريقيا والسودان ومحاولات في إفريقيا جنوب الصحراء، وقامت محاولات في
تونس بقيادة الدكتور تيجاني السماوي وعاضده عدة مشائخ انقلبوا عليه لاحقا باعتبار ما أسموه اعتداله.
وكان المذهب الشيعي الإسماعيلي قد ساد في تونس في فترة الفاطميين
(909/969 ميلادية ) إلا أنه انحسر بعد انتقال "الخلافة الفاطمية " إلى
مصر ، وتولي الصنهاجيين الزيريين حكم البلاد ، فعمدوا إلى مطاردة الشيعة
الإسماعيلية ،وقضوا عليهم، واستصفوا البلاد للسنة المالكية كما كانت من قبل ، إلا
بعض الأباظيين الذين انحسروا إلى جزيرة جربة بعد أن سادوا زمن الدولة
الرستمية الجزائرية في مناطق الجريد. وكان
من نتيجة انقلاب الصنهاجيين الزيريين على
الفاطميين والقضاء على مذهبهم الشيعي الإسماعيلي، أن عمد الفاطميون في مصر إلى إرسال جحافل الهلاليين من صعيد مصر إلى
تونس، فعاثوا فيها فسادا ، واحرقوا النسل والزرع، واستوطنوا بالبلاد.
ويعتقد الملاحظون أن الشيعة الإسماعيلية
وكذلك الزيدية هم أقل غلوا من الشيعة الإثني عشرية أو الشيعة العلوية النصيرية،
فهؤلاء اشتهروا بلعن الخلفاء الراشدين باستثناء علي ، على أساس أنهم اغتصبوا
"الحق الشرعي لعلي بن أبي طالب في خلافة الرسول" وأن أهل البيت أي علي
ومن جاء بعده من أبنائه وأبناء فاطمة بنت الرسول هم الأحق والأولى بالخلافة.
كما إن أذانهم للدعوة للصلاة مختلف على نحو ما
عن أذان السنة.
وقد حاربت الجهات المصرية رسمية ودينية منذ
سنوات ولكن من طرف خفي المد الشيعي،
ويعتقد الكثيرون في مصر أنه مد إيراني
فارسي يستهدف العرب ، وأنه ينحدر من عداء لكل ما هو قومي عربي على أساس أن الفرس
هم الأحق، وفي تونس تم تقديم رسالة
دكتوراه للباحث الدكتور محسن عبدالناظر
تجدر قراءتها لفهم أغوار المذهب الشيعي الإثني عشري أو الجعفري من وجهة نظر سنية
مالكية.
ولذلك فإن الدكتور أحمد الطيب شيخ جامعة
الأزهرالجديد، وهي الجامعة التي لا تكتفي بضم كليات دينية بل تتمثل في
كليات أدبية وعلمية ومنها كليات للهندسة والطب والتجارة وغيرها ، والمعروف بأنه
رجل سياسة علاوة عن أنه رجل دين ، فهو عضو لجنة السياسات في الحزب الوطني الحاكم
وهي اللجنة التي يرأسها جمال مبارك نجل
الرئيس حسني مبارك ، كما إنه نائب برلماني ، ولذلك فإنه يختط لنفسه سياسات مكشوفة
لا خفية ويتجه نحو تسمية الأشياء بأسمائها، ويعلن مواقفه بصراحة في محاولة مواجهة
المد الشيعي/ الفارسي كما أخذ عدد كبير من المصريين يسمونه.
و من هنا فإن معركة محتدمة قد تشهدها
الساحة العربية والإسلامية ، خاصة بعد فشل الحوار السني الإسلامي وانعدام وجود
أرضية صلبة لقيامه.
*رئيس
التحرير الأسبق
تحية
المقال المخصص ليوم الأحد 25 أفريل
2010
عودة أيام العز
بقلم عبداللطيف الفراتي*
للواقع لم أفاجأ بعودة محمد الكيلاني
، فلقد كنت وما زلت أتوقع عودة عدد من الكتاب الجديين الذين عرفتهم الصباح أيام
العز أو الذين عرفتهم صحف عديدة جادة
للكتابة على أعمدة الصباح،، أولئك
الذين حفلت الصباح بهم في تلك الأيام
التي كانت فيها وعاء لكل التوجهات ولكل الآراء، بقطع النظر عن
اختلافاتها وأحيانا تعارضها.
من هنا مر الهاشمي الحامدي ،، وماهر
المذيوب، ومن هنا مر صلاح الجورشي وحميدة النيفر ،، ومن هنا مر سليم الكراي أيام
كان محسوبا على اليسار ومن هنا مر سمير العبيدي. وهواليوم وزير وآخرون آخرون.
وهذا كان موقع تبادل المواقف في اتحاد
الطلبة أيام المصالحة قبل أن تنقلب إلى سيطرة تنفي وجود الآخر.
انطلقت الصباح قبل ستين سنة على هذه
الخلفية، لتكون صوت من لا صوت له، وحافظت الصباح خلال حياتها وكما أراد لها المؤسسون على هذه الميزة، في إطار من الإمتناع
عن توزيع الإتهامات ، والتخوين والتكفير أو استعمال سلاح السب والشتم .
كانت تلك سياسة إرادية واجهت محاولات
التدجين ، وبذلك كانت الصباح دوما عدا سنوات قليلة أخيرة لا تدخل في حساب الزمن، مجالا للتعبير عن كل ما
يتعامل في المجتمع من مواقف متناقضة، لم يكن ذلك يعني مطلقا أن الصباح لم يكن لها
موقف ، وموقف تصر عليه، غير أن ذلك لم يمنع من أن تكون الصباح دوما وعاء لكل من
يريد أن يعبر عن موقف، فيجد على أعمدتها المتسع من المجال .
لذلك وبالنسبة لي شخصيا وأنا الذي
قضيت 41 سنة في رحاب الصباح ، هذه المؤسسة التي تجري بالجملة والتفصيل في دمي ،
فإني أشعر بالكثير من الراحة ، والعود أحمد على رأي محمد الكيلاني ، هذا المثقف
الذي كان من بين الذين طبعوا حياتنا ـ
أحيانا دون شعور من الكثيرين ـ سواء خلال نضاله الطلابي أو نضاله المجتمعي ولا
أقول السياسي.
وعودة محمد الكيلاني للكتابة و في
الصباح بالذات ، في المنتدى. هو إثراء كبير للمنتدى وللجريدة وللحياة الوطنية، وقد
تأثرت كثيرا وهو يقول في مقاله المنشور الأحد 18 أفريل بالصفحة 14 " وجريدة الصباح مشكورة على دعوتها
اللطيفة لي للمشاركة برأيي في "المنتدى"...فلبيت .. "والعود
أحمد"".
قبل أن يضيف وهذا بيت القصيد :"
إنني أؤمن بأن تداول الآراء والأفكار، ينمي الحوار بين النخب، ويشجع المواطن، على
المشاركة في الحياة العامة، ويبعث في المجتمع ديناميكية ذاتية متطلعة لما هو أرقى
وأفضل."
وإني أعتقد جازم الإعتقاد مع إحساس
كبير بأن ذلك هو شعور المثقفين العام أن
الحياة الإجتماعية لا تستقيم فقط بالممارسة الديمقراطية القائمة على تأسيس الأحزاب
واللجوء لصناديق الإقتراع بصورة دورية ، واحتمالات التداول متى توفرت المرتكزات ،
بل وأيضا باعتماد الكلمة الحرة ضمن صحافة
حرة منطلقة ، بل إني أزعم أن الحرية الصحفية هي إحدى المقومات الأساسية للممارسة
الديمقراطية، وإني لأذكر أننا مكتب جمعية الصحفيين وأنا من ضمنهم كرئيس وقتها
، بعد أن وقع انتخابنا في ربيع
1986 وخلال زيارة لكل مقومات الحركة السياسية والإجتماعية في البلاد ، وفي لقاء مع السيد
أحمد المستيري أمين عام حركة الديمقراطيين الإشتراكيين آنذاك، توجه لنا بالقول بما
معناه أن حرية الصحافة هي المقوم الأول والرئيسي للممارسة الديمقراطية، وفيما أذكر
أنه أضاف إنها تسبق تكوين الأحزاب والإنتخابات.
ورجل محترم وديمقراطي ونزيه حتى
النخاع مثل أحمد المستيري لا يسوق الكلام
على عواهنه بل يعرف ما يقول.
وعودة محمد الكيلاني إلى الكتابة وفي
الصباح بالذات هي تواصل مع تقليد قائم في هذه الجريدة، وكنت عندما دخلت الصباح
كصحفي مبتدئ في سبتمبر 1959 ، واجهت أول ما واجهت الإنتخابات العامة في نوفمبر من
تلك السنة.
وكنت أغطي كل يوم اجتماعات قائمات
الحزب الشيوعي الخضراء آنذاك، وأنقل ما يدور فيها من كلام معارض وأحيانا قاس، وكنت
ألاحظ أن الصباح كانت الصحيفة الوحيدة التي تقدم على ذلك ، وكانت تغطي أيضا الحملة
الإنتخابية لما كان يسمى بقائمات الوحدة القومية التي كانت تضم في صفوفها الحزب
الحر الدستوري آنذاك واتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة واتحاد المرأة واتحاد
المزارعين.
وتعلمت من أيامها أن الصباح هي فضاء
رحب للرأي والرأي المخالف.
وفي سنة 1989 وبمناسبة الإنتخابات
التعددية التي جرت وشارك فيها الإسلاميون في إطار ما أسمي وقتها بالقائمات
المستقلة ، تولت جريدة الصباح تغطية حملة كل المشاركين من حزب حكومي وأحزاب معارضة
وقائمات مستقلة.
ولكن وفي يوم الإنتخابات صدَرت صفحتها
الأولى بافتتاحية منبثقة من قناعاتها تدعو لعدم التصويت لتلك القائمات المستقلة ،
لأن الفكر فيها قائم على تصور مجتمعي مناقض لتصورات غالبية المجتمع التونسي.
هذه هي الصباح لمن نسي من الناس على
ما قامت ، وكيف مارست العمل الصحفي المسؤول، ولذلك فهي وقد قامت من كبوتها بإرادة
محمد صخر الماطري اليوم والمجموعة التي حوله ، تستعيد توجهاتها التأسيسية ، وما
عودة محمد الكيلاني وقبله عديدون دعوا للكتابة فيها وغدا غيرهم إلا مواصلة للمسار على الطريق الذي
اختطته لنفسها وسارت على دربه منذ التأسيس.
· رئيس التحرير
الأسبق
للنشر
يوم الخميس 29/04/2010
معضلة
الماء
أبرزت
دراسة جرت في إطار معاهدة برشلونة للبحر الأبيض المتوسط ، وحاضر حولها الدكتور
محمد النابلي كاتب الدولة السابق افتقار المنطقة المتوسطية للماء الذي قال الله
تعالى بشأنه " وجعلنا من الماء كل شيء حي".
غير
أن هذا الإفتقار درجات، وإذ انقسم حوض البحر البيض المتوسط إلى ثلاث مناطق رئيسية،
فإن المنطقة الشمالية التي تقع كلها في أوروبا متاحة لها 1900 مترمكعب للفرد في
السنة، فيما المنطقة الشرقية وتشمل بلدان الشرق الوسط متاح فيها للفرد 1300 متر
مكعب للفرد في السنة، أما المنطقة الجنوبية بما فيها من مصر إلى المغرب فأنها
تكتفي بـمتاح لا يتجاوز 900 متر مكعب للفرد فيما الحجم الطبيعي اللازم هو الف متر
للفرد سنويا.
وحتى
هذا الحجم فهو ليس موزعا بالتساوي ،وإذ نجد المتاح للفرد في المغرب في حدود 900
متر مكعب سنويا ، فهو 870 في مصر و470 في تونس و450 في الجزائر وأدنى من ذلك بكثير
في ليبيا.
وتعتبر عتبة الفقر المائي في حدود 500
متر مكعب للفرد في السنة ، دونها يعتبر البلد تحت تلك العتبة فقيرا.
وفي المنطقة الشرقية والجنوبية من حوض
البحر البيض المتوسط ، قد تصبح مشكلة المياه عبر الحدود قضية إستراتيجية، ففيما
بين تونس والجزائر حيدت الطبيعة الأمر فكما توجد وديان تسيل من الجزائر إلى تونس
وأكبرها هو وادي مجردة، فإن هناك مياه تسيل من تونس إلى الجزائر، ومن هنا فإن
التوازن بين البلدين قائم إلى حد ما.
ولكن تبدو المعضلة الكبيرة في الحال
القائم بين تركيا والبلدان التي تحتها والتي تسقيها مياه الفرات أي سوريا والعراق.
وكذلك بين مصر وما يأتي قبلها بالنسبة
لمرور وادي النيل ، الذي تطل ضفافه على 8 دول إفريقية، وتنبع 80 في المائة من
مياهه من أثيوبيا.
فتركيا استأثرت بمياه الفرات ، على
حساب سوريا خاصة ولكن العراق أيضا ، وتجري مفاوضات بدون نتيجة بين كل من تركيا من
جهة وسوريا منفردة والعراق منفردا منذ سنة 1987، وفي فترة بين 1987 و2000 كان
العداء شديدا بين النظامين البعثيين في سوريا والعراق بحيث كان التنسيق في مواجهة
تركيا مستحيلا، وفي الأثناء تحولت تركيا إلى قوة إقليمية كبيرة ، وتقزم العراق
الذي دخل ثلاثة حروب قضت عليه كقوة إقليمية، فبعد الحرب مع إيران تراجع العراق إلى
مرتبة ثانية بقوة عسكرية محدودة وتأثير دولي ضعيف، وبعد اجتياح الكويت وحرب 1991،
انهار العراق وبات أقل من دولة متوسطة، واستكمل العراق انحداره بعد أن وقع احتلاله
سنة 2003، وفقد وضعه كدولة ذات سيادة، ترتع في أرضها وتسيطر على مقدراتها عدة دول
في مقدمتها الولايات المتحدة، أما سوريا فقد استنفد قوتها المستنقع اللبناني ، من
جهة والتحالفات مع كل انواع التطرف، ولم تعد تمثل وزنا كبيرا امام تركيا الصاعدة
والحالمة باستعادة دورها كقوة عظمى في المنطقة.
ومن هنا فإن تركيا بما يقل عن واحد من
7 من طول نهر الفرات يمر عبر أراضيها تستغل ثلاثة أضعاف مياه الفرات ودجلة مما
تحصل عليه سوريا والعراق، والعراق بالذات أصبح مهددا بالجفاف بعد أن كان المتاح له
من المياه يجعله أول دولة في العالم.
وعلى العكس تماما فمصر تقع في آخر
سلسلة الدول المستفيدة من مياه النيل، وليست هناك قطرة تأتي للنيل عندها من أرضها
أو مرتفعاتها، ورغم ذلك وباعتبارها قوة إقليمية كبيرة بالقياس إلى الدول السبع
الأخرى التي ينبع منها النيل فإنها تستأثر بجانب كبير من مياهه، ولا يبدو أنها في
وارد التنازل على أي جزء منها.
وتسعى الدول الواقعة في سافلة مصر أي
قبلها انطلاقا من المنابع لإعادة اقتسام مياه النهر، بصورة تعتبرها أعدل وعلى أساس
إعادة النظر في اتفاقية 1959 التي لم توقعها إلا مصر والسودان، غير أن مصر لا تبدو
مستعدة للتنازل عن أي شيء ، فمصر هي هبة النيل والمساس من حصتها من مياهه يخل بكل
موازناتها الداخلية.
ولقد سبق لمسؤول مصري كبير أن أعلن في
مناسبة كانت تهدد بحرب بين دولة عربية وإسرائيل أن مصر لن تدخل مستقبلا في أي حرب
ومع أي كان ، إلا في حالة المساس بمصالحها الحيوية المتمثلة في النيل وفي حصتها من مياهه.
وكدولة تعتبر قوة إقليمية تتجاوز واقع
كل الدول الأخرى في منطقتها الإفريقية فلها الوسائل الكافية للحفاظ على مصالحها
متمثلة في ما تعتبره حصتها الشرعية من مياه النيل وعدم التنازل ولو عن قطرة منها.
وإذ يجري الحديث عن استعداد إسرائيل
لتمويل وبناء سدود في أثيوبيا تحجز جزء مهما من مياه النيل ، وهو أمر قابل للتصور
وحتى للتنفيذ، فإن إسرائيل في النهاية لن تجرؤ على ذلك، ولعل تفسير المواقف
الرسمية المصرية في أحداث غزة وغير غزة ، وما يبدو من ممالأتها لتل أبيب يكمن في
اتفاق ضمني بأن لا يقوم أي من الطرفين بما يمكن أن يثير الطرف الآخر، ولكل منهما
السلاح الرادع تجاه الطرف الآخر.
ولذلك يبدو أن الوضع الحالي ليس مهددا
في شأن مصر، إذ إن لها القوة الرادعة تجاه الآخرين ، كما إنها لا تريد أن تستثير
إسرائيل تجنبا لارتكاب المحظور. ومن هنا فإن العارفين يدركون بأن مصر ستستمر في
نيل حصة من المياه وفقا لإرادتها، وأن الدول المطلة على النيل لن تستطيع شيئا خارج
إرادة مصر التي تعتبر في المنطقة قوة إقليمية لا تجارى.
· رئيس التحرير
السابق لجريدة الصباح التونسية
الأستاذ المحترم نورالدين عاشور
صلاحيات البلديات..
وما تشكوه من تقزم
تجري الأحد المقبل الإنتخابات البلدية
الرابعة عشرة منذ الإستقلال ، على خلفية تعددية في الترشحات لم تبلغ مداها، ولا
كانت في مستوى الطموحات ، لا طموحات القيادة السياسية في ما أعتقد وهي صاحبة
الإرادة القوية في تحقيق التنمية السياسية، ولا طموحات النخبة السياسية والمثقفة
في البلاد.
ولعله وجب بحث أسباب هذا الوضع، فمن بين
264 مجلس بلدي معروضة مهمة المستشارين فيها على التصويت الشعبي ، لم نسجل للمعارضة والمستقلين سوى ترشحات في 78 بلدية فقط.أي غياب الترشح التعددي
في 186 بلدية، أكثر من الثلثين. وهو ما يعني
احتكارها من قبل الحزب الحاكم.
وإذ تستحق الظاهرة الدراسة المعمقة والعلاج
الملائم فليس هذا موضوعنا اليوم.
وسنتطرق في ما يأتي إلى أمر آخر ، وهو
صلاحيات البلديات ومشمولاتها ،ومواصلة اعتبارها إما قاصرة أو غير مترشدة ، تحتاج
إلى من يقود خطاها.
وإذ يعود العمل البلدي في تونس إلى
الستينيات من القرن التاسع عشر، مع مجلس بلدية العاصمة برئاسة الجنرال حسين، وخاصة
إلى سنة 1884 بتأسيس المجالس البلدية الأولى في المدن الأكبر، فإنه لا يمكن للمرء
أن يغفل عن أن صلاحيات البلديات قد راوحت مكانها منذ ذلك الوقت أو تكاد.
ومنذ إنشاء البلديات الأولى في فرنسا ،
ومنذ التنظيمات التي حددها لها نابوليون بونابارت تطور العمل البلدي الفرنسي إلى
درجة كبيرة ، وخف وزن المركز عليها وباتت سيدة قرارها.
وفي تونس ورثنا بعد الإستقلال النظرة
الفرنسية ، التي كانت قائمة على مركزية مفرطة ، وعدم ترك أي مجال للمناورة للجهاز
الجهوي والمحلي، ووضعه تحت وصاية شديدة وكأنه قاصر لا حول ولا طول له.
ولقد كان مفهوما إلى حد كبير ، ما تمثل من
غيرة الإدارة المركزية على السلطات المجتمعة بين يديها ، في الفترة التي استقلت
فيها البلاد ، فلقد كانت الإدارة التونسية مفتقرة بشكل شديد للإطارات ذات التكوين
العالي وحتى المتوسط ، فكان أن احتكرت ما توفر من كوادر في المركز، تاركة الجهاز
الجهوي والمحلي يشكو من نقص فادح في الإطارات ذات الكفاءة.
وكان أن استحوذت الإدارة المركزية على
صلاحيات كان من المفروض أن تذهب للبلديات، وتعللت تلك الإدارة بنقص في الكوادر
يجعل من التصرف البلدي غير ذي كفاءة ويحتاج إلى رقابة مفرطة من السلطة المركزية.
وهكذا باتت كل القرارات حتى البسيط منها
يرفع من المحلي إلى المركزي، فيتطلب وقتا للحسم طويل كان يمكن اختصاره إلى الحد
الأدنى.
ولقد جاء الوقت لإدخال تغييرات جذرية على
العمل البلدي في اتجاه اعتبار البلديات كائنات رشيدة، تتولى بنفسها اتخاذ قرارها ،
ولا تعود في كل كبيرة وصغيرة إلى الولاية، أو وزارة الداخلية أو جهات أخرى جهوية
أو مركزية تتولى القرار بدلا عنها ومكانها.
وهذا يتطلب إرادة سياسية وشجاعة في مواجهة
الأمر على غرار قرارات شجاعة أخرى اتخذت في حينه، إما أنها قلصت من تدخل المركز،
أو مكنت من أدوات جديدة للتصرف، مثل قانون المالية البلدية الذي عاد بالنفع على
البلديات ، ومكنها من وسائل عمل أكبر ، وإن كان تمويل الأنشطة البلدية ما زال يشكو
من ضعف الموارد، ما يجعل عملها في كثير من الأحيان ليس في مستوى الطموحات.
ولعله وجب والحال على ما هو عليه ،التفكير
في موارد جديدة عبر المالية العمومية لإعطاء البلديات وسائل أنجع لتحقيق برامجها،
والتوجه نحو تحويل صلاحيات جديدة إليها، تخفيفا على المستوى الوطني وتقريبا لخدمات
اجتماعية بالخصوص إليها وهي الأقرب إلى المواطن ،والأكثر إحساسا بحاجياته وتطلعاته
والقدرة على حسن التصرف.
وبدل أن تعود البلدية وهي منتخبة عبر
مجلسها وتعتمد إدارة أكثر فأكثر كفاءة ، ـ بدل أن تعود في قرارها ـ إلى إدارة مركزية بعيدة عن حقيقة الإدراك لواقع
الجهة ، وفي كل كبيرة وصغيرة لوصاية تحد من استقلال قرارها، وتبطئ تحركها، فلقد
جاء الوقت وحان ليكون القرار البلدي مستقلا، بعيدا عن كل وصاية من المركز أو حتى
من الولاية، وإن أخضع إلى الرقابة اللاحقة مثل كل عمل إداري سواء عبر المصالح
الإدارية ، أو عبر القضاء الإداري، فتتحمل البلدية مسؤوليتها ولا تتخفى كما هو
الشأن الآن وراء مسؤولية إدارة مركزية ، بعيدة وثقيلة.
· رئيس التحرير الأسبق
كيف سيكون الغد؟
عبداللطيف الفراتي *
بمناسبة معرض الكتاب في تونس، يقف المرء
مشدوها أمام انفجار ظاهرة الكتاب الإليكتروني متمثلا في موسوعات ومصاحف قرآن وحتى
كتبا ليست بالقليلة.
وإذ حفلت رفوف العرض بذلك وبات قرص الليزر
سيدا ، فإن الإنترنت أصبح يعرض بلا مبالغة عشرات ألوف الصحف والكتب والموسوعات
والكتب الدينية فضلا عن الأفلام والأغاني من كل الأزمان والعصور.
واليوم وبالنسبة لتونس وحدها فلقد تعددت
مواقع الصحف والمجلات، سواء كانت مرتبطة ـ وهي الوسائل الإفتراضية ـ بصحف ورقية – اي لها وجود مادي - أو لا.
وتفوق زيارة هذه المواقع في كثير من
الأحيان القراءة على الورق والمكتوب.
ويدل موقع أليكسا أن مواقع مثل الفايس بوك
استقطبت في تونس مليون و250 ألفا من المبحرين، وأن مواقع كثيرة تتقدم على مواقع
الصحف ، ويأتي الموقع الإليكتروني لجريدة الصباح في مرتبة أولى بين الصحف التونسية
جميعها.
ويتساءل الكثيرون إن كنا على أبواب طغيان صحافة إليكترونية بدون
خلفية ورقية، فقد أغلقت صحيفة " كريستيان مونيتور ساينس" الأمريكية
وتعتبر من كبريات الصحف، أغلقت طبعتها
الورقية مكتفية بصيغتها على الإنترنت ، بعد أن تطور حجم قرائها الإفتراضيين، وارتفعت
إيراداتها الإعلانية على تلك الطبعة. كما أغلقت مجلة المجلة وتعتبر أقوى المجلات
العربية طبعتها الورقية ، وطورت طبعة افتراضية ناجحة زاخرة بالإعلانات.
وتمثل الصيغة الإليكترونية للصحف مصدرا
للإقتصاد كبير في نفقات صنع الصحيفة، فمن جهة يتم اختصار كل مرحلة الطباعة التي
تشكل حوالي ربع الكلفة ،كما يتم من جهة
أخرى اقتصاد نفقات النقل التي تثقل كثيرا كاهل الصحيفة الورقية، هذا إضافة إلى
إلغاء الحاجة إلى الورق الذي انفجرت أسعاره.
وصدرت صحف عبر الإنترنت بدون طبعة ورقية
تبدو ناجحة باعتماد عدد زوارها ، وحجم الإعلانات فيها، مثل صحيفة إيلاف السعودية
التي يجري تحيين أخبارها وتحليلاتها عدة مرات في اليوم ،والقادرة على ملاحقة
الأحداث أولا بأول. وحتى أسرع من القنوات التلفزيونية .
وإذ تنبأ الكاتب والصحفي الفرنسي برنارد
بولي " بنهاية الصحف" في كتاب أصدره قبل عام ، فإن المطلعين لا يذهبون
مذهبه، ويعتقدون أن المستقبل ما زالت مشرعة أبوابه أمام الصحافة الورقية والكتاب
الورقي.
وسوف تنقسم الصحافة بالذات إلى قسم
إليكتروني وآخر ورقي ، والمعتقد عامة أن الصحافة الإليكترونية في بلدان العالم
الثالث أكثر جرأة وانطلاقا من الصحافة الورقية، وأنها تسمح لنفسها بهامش من الحرية
أوسع، لاعتقاد خاطئ من السلطات بأنها أقل انتشارا وتأثيرا.
والسائد اليوم هو أن الصحافة الورقية
والصحافة الإليكترونية ستتعايشان على المدى المنظور، وأنه ما زالت أيام
"سعيدة" أمام صحافة ورقية ينبغي لها أن تتفاعل مع واقع جديد، واقع ليس
الخبر هو مرتكزه ، ولكن قاعدته هي التحليل
والتعليق الذي يعتمد على معلومات موثقة.
وفي هذا الخضم والنقاش حول المستقبل محتدم،
ظهرت اللوحة الإليكترونية، وهي تبشر بعهد جديد ما زالت آفاقه غير محددة، وهذه
اللوحة هي أشبه بلوحة التلميذ، ولكنها عبارة عن كومبيوتر له قدرة كبيرة على
التخزين، ويمكن وصله بالإنترنت عبر تليفون محمول، وتستطيع اللوحة التي تشتغل بمجرد
اللمس الخفيف( بدل لوحة المفاتيح) أن توفر أعداد من الصحف أو من الكتب على شاشتها،
كما يمكن أن تخزن في ّدماغهاّ المناهج الدراسية لكل الحقبة الإبتداية والثانوية،
وتستعمل ككراس للتمارين، كما يمكن أن تخزن عددا من الأفلام أو الأغاني بدون حد.هذا
عدا الكتب والصحف.
وعلى هذه اللوحة التي لا تزن حاليا سوى 600
أو 700 غرام والمدعوة إلى أن تخف أكثر يمكنك أن تقرأ صحيفتك وأنت في فراشك. كما
يمكنك قراءة كتاب من بين مجموعة كتب معروضة.
أكثر من ذلك يمكنك كتلميذ أو طالب أن تذاكر دروسك،
وأن تقوم بتمارينك على تلك اللوحة وتسجلها..
وبدل محفظة تزن عدة كيلوغرامات، فإن هذه
اللوحة تخلص من ثقل الكتب والأدوات بحسب البرمجة التي يمكن للمرء أن يدخلها فيها،
وأن يستدعيها بلمسات صغيرة على شاشتها الحساسة.
ويمكن للوحة الإليكترونية أن تكون الأداة
التي ستنشر غدا سواء الصحيفة الإليكترونية أو الكتاب الإليكتروني على أوسع نطاق.
ولكن يبقى لدى الكثير من الناس حنين طاغ
للورق صحيفة أو كتابا، فيعلنون أنهم لا يرتاحون إلا والورق بين أيديهم، ورائحة
الحبر تملأ أنوفهم، والأحرف تتراقص أمام أعينهم مطبوعة أنيقة.
وهؤلاء لن يتخلوا لا اليوم ولا غدا عن
صحيفتهم أو كتابهم الورقي، ولن تجتذبهم شاشة سواء للكومبيوتر الكلاسيكي أو للوحة
الإليكترونية الجديدة.
· رئيس التحرير السابق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق