الجمعة، 31 يناير 2014

قرأت لكم : قراءة مقارنة بين دستورين


قرأت لكم
 أود بادئ ذي بدء الإعتذار  من الصديق الأستاذ سمير عبد الله المحامي، الذي كان يكتب باستمرا في جريدة الصباح ، قبل وأثناء الفترة التي كنت فيها رئيس تحريرها، وذلك لإني لم أحصل على ترخيص منه قبل نشر ، باكورة إنتاجه الغزير بشأن المقارنة بين دستور  1 جوان 1959 و26 جانفي 2014 ، وذلك لأني لم أستطع أن أحصل عليه رغم المحاولات المتكررة ، بعد أن فقدت رقم تليفونه.
ولقد قرأت هذه المحاولة للمقارنة والتحليل بين دستورين ووجدت أنها تتميز بالطرافة من جهة، وعمق النظر، رغم أني لا أشاطر كل ما جاء فيها، وأعتقد أن كثيرين قد يكونوا مثلي فيما آخرون يشاطرون الأستاذ الرأي.
فمعذرة مجددا وهذا هو النص


تونس بين دستورين: قراءة ساخنة بعقل بارد


بقلم الأستـاذ: سمير عبد اللـــه المحامي لدى التعقيب

الآن و قد هدأت، شيئــا مـا، موجة التهليل و التفـاخر و المباركة للدستور الجديد الذي وقع ختمه يوم الاثنين 27 جــانفي، حــان الوقت لقراءة هــادئة، عقلانية و قانونية لهــذا الدستور الذي "ملأ الدنيــا و شغل النــاس" وعلى امتداد أكثر من سنتين، فمــا هي الحصيلة و ما هي الخلاصــات؟ ...
لنكن واضحين من الأوّل : سنعتمد في قراءتنا على النصّ الأصلي لدستور غرّة جوان 1959 دون اعتبــار جملة التعديلات التي أدخلت عليه في عهدي بورقيبة و بن علي ثمّ سنبتعد في قراءتنــا عن التجــاذبات السيـاسية و العقـائدية التي أصبحت عنوان ما يسمّى في بلادنا المرحلة الانتقــالية.
1-
لا يختلف اثنــان و أن إلغــاء دستور 1959 و سنّ دستور جديد لم يكن في أيّ وقت من الأوقـات مطلبا للاحتجاجات الشعبية التي شهدتها بلادنا في الفترة من 17/12/2010 إلى 14/01/2011، وهي احتجاجات تركّزت بالأســاس على مطالب اجتماعية و مطالب سيـاسية بدرجة ثانية و من هنا جــاءت التسمية الرائجة "ثورة الحريّة و الكرامــة"، ذلك أن الغضب الشعبي انصبّ على السلطة السياسيـة التي كـانت قائمة و لم يكن هدفـه الدولة التونسية المستمرّة منذ قرون و التي تشكّلت سيادتها بتحقيق الاستقلال في 20 مــارس 1956.
2-
قليلة جدّا هي الدول التي ألغت دســاتيرها لوضع دسـاتير جديدة، فالدستور هو عنوان سيـادة الدولة ككيـان، وهو شهـادة ميلادها عند التحرّر من استعمــار.
و تونس قبل 14 جــانفي 2011 لم تكن دولة مستعمرة، تحت الاحتلال.
و لنأخذ كبـار الديمقراطيات في العـالم: الهنـد – أمريكا – بريطانيا – و غيرها، بريطانيا ليس لها أصلا دستور مكتوب بل أن نظـامها السيـاسي يسير وفق قواعـد تعتمد العرف و التقـاليد، أمّـا في الولايـات المتحدّة، فإن دستورها ســاري المفعول منذ قرابة الثلاثة قرون و لم يتغيّر حرف واحـد منه و فرنســا القريبة منّا، بقي دستور الجمهورية الخــامسة قائما فيها دون أدنى تغيير. فالدسـاتير لها قدسيتها باعتبــارها التعبير الأرقى لإرادة الأمم و التي تعبّر عن هويتّها الأصيلة و اختيــاراتها التي وضعها و خطهـا الآبـاء المؤسسون، و هي ليست بقوانين عادية، مثل مجلة الطرقــات أو المجلّة التجـارية التي تتغيّر بتغيير الظروف.
3-
إن دستور الجمهورية لسنة 1959 هو وليد مخـاض عسير بعد تحرّر البـلاد من الاستعمــار و أن المجلس القومي التأسيسي كـان التعبير الأصدق لإرادة الأمّة، مثّلت فيه جميع التعبيرات السيـاسية و الاجتمـاعية و رغم استئثـار حزب الدستور بزعـامة الرئّيس الراحل الحبيب بورقيبـة بالأغلبية فيه، فإنه لم يفرض إرادته و رؤاه السيـاسية خلافا لدستور تونس الجديد الذي خضع على امتداد سنتين للغـة التجـاذبات و موازين القوى السياسية داخل المجلس الوطني التأسيسي.
فعبــارة "دستور توافقي" تهدف في الحقيقة إلى التسويق السيـاسي و الإعلامي و لا يمكن لها أن تخفي حقيقـة الصراعــات و التجاذبــات التي دارت في رحــاب و كواليس المجلس و التي وصلت إلى حدّ التلاكم، فضلا عن التلاسن و تبـادل الشتـائم على الهواء مبــاشرة.
4-
إن الدستور باعتبــاره قـانون القوانين هو مجموعــة قواعـد عـامّة، مجرّدة، تخطّ الخيـارات الكبرى للدولة و تنظّم مؤسساتها و توزّع السلطـات فيما بينها، فهي لا تدخل في التفـاصيل و الجزئيـات و تبتعد عن التنـاقضـات الظرفية السـائدة و تنــأى بنفسها عن الخوض في المسـائل العقائدية و الإديولوجية ، و تلك المواصفـات هي التي نفسّر ديمومـة و حيويّة و نفــاذ الدسـاتير.
فلنأخذ التوطئة مثلا، فتواطئـة الدستور الأصلي لسنة 1959 اقتصرت على خمسة فقرات من 15 سطرا تنـاولت عبارة "الإســلام" في مناسبة وحيدة بالقول أن الشعب التونسي "مصمّم على تعلقه بتعــاليم الإسـلام"، في حين جـاءت توطئة الدستور الجديد مكثّفـة من حيث التعبير و التأكيد في ثلاثة مناسبـات على "تمسّك شعبنـا بتعـاليم الإســلام" و "توثيق الانتمــاء للأمّة العربية و الإسلامية" و "التكــافل مع الشعوب الإســلامية".
و هــذه التوطئة التي ركّزت بشكل لافت و مثير على مسألة "الهويّة الدينيّة" مثّلت لوحـة القيــادة لمجمل الدستور وسعت إلى وضع بصمــات تلك "الهوية" في أكثر من فصل و موضع.
يأتي ذلك في بلد مسلم منذ 14 قرنـا، لعب دور الرّيـادة في نشر الإســلام في ربوع إفريقيا و تحتضن أوّل مسجد و أوّل جــامعة إسلامية في إفريقيـا و العــالم العربي و شيّدت فيه دولة الاستقلال أكثر من 4000 مسجد.
5-
إن الإصرار على هــذا التوجّه العقــائدي للحزب المنتصر في انتخـابات 23 أكتوبر و حلفــائه جعل من ولادة الدستور و منذ سطره الأوّل و بنده الأوّل جدّ عسيرة و بعد أن لوّح الحزب الحـاكم بقضيّة الشريعـة واعتمـادها كمصدر أسـاسي للتشريع، دخل البلد في متـــاهات الصراعـات العقــائدية بين رافض ومؤيّد واتضح فيما بعد أن المسـألة هي بالونـة هواء أريد منها رفع السقف إلى أعلى درجــاته للحصول على أكبر التنازلات في هـذا المسألة و تمّ "التوافق" في الأخير على الإبقــاء على الفصل الأوّل من دستور 1959 " تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيــادة، الإسـلام دينها، و العربية لغتهـا، و الجمهورية نظــامها" و لــــكن أضيفت لهــذا الفصل عبارة مفخّخة، نــادرا ما نجدها في الدسـاتير المقـارنة، تقول "لا يجور تعديل هــذا الفصل" و كأنّنـا أمــام فصل مقدّس لا يجوز الشرك بـه، فضلا عن سيل التأويلات التي سـادت النقـاشات العـامة بين من يعتبر أن المقصود من عبارة " الإسلام دينها"، هو أن الإسـلام دين الدولة و من يعتبر أن المراد بذلك هو دين الشعب.
6-
و مـا أكثر الفصول المفخّخة إلى حدّ الجمع بين جميع المتنــاقضـات في فصل واحد، و يبقى أبرز مثــال لذلك، الفصل الســادس، الذي جــاء نـاصا في نفس الوقت على حريّة المعتقـد و حريّة الضمير، و في المقــابل التزام الدولة "برعــاية الدين" و "حمــاية المقدّسـات" و "منع النيل منها" و في الآن نفسـه التزام الدولة بـ" منع دعوات التكفير و التحريض على الكراهيّة و العنف و التصدّي لهــا" .
و تلك المتنــاقضـات الواردة في ذلك الفصل و التي أثــارت جدلا واسعـا لم يقع حسمها، في حين أن التحقيقـات في قضيتي اغتيــال شكري بلعيــد و محمد البراهمي لا زالت جــارية، و المؤكّد أنها كـانت تنفيذا باردا لدعوات الكراهيّــة الصادرة عن جهــات تكفيرية معلومــة بالاسم.
ثمّ إن قضية حريّة الضميــر و حريّة المعتقـد فشلت في أوّل امتحــان في قضية المعتقل جــابر مـــاجرى المحكوم عليه بـ7 سنوات سجنا، فهل أن تلك القضيـة تتعلّق بممارسـة لحريّة الضمير؟ أم هي قضيّـة تتعلّق بمسّ بالمقدّسـات؟ و ما معنى ما راج من استعداد للعفو على ذلك المعتقل مقـابل تهجيره للإقــامة ببلد أجنبي ؟ !.
و للمقــارنة فإن دستور 1959 أكّد بصورة واضحة لا لبس فيها على أن الجمهورية "تضمّن حرمـة الفرد وحريّة المعتقـد و تحمي حريّة القيـام بالشعـائر الدينية ما لم تخلّ بالأمن العــام" (الفصل 5).
كمــا أن نفس ذلك الدستور "يحجر تغريب المواطن عن تراب الوطن أو منعه من العودة إليه" (الفصل 11).
7-
جميل أن يخصّص الدستور الجديد بـابا كـاملا لضمـان أوسع الحقوق و الحرّيـات، و جميل أن يؤكّد ذلك الدستور على الحقوق المكتسبة لفــائدة المرأة و إرسـاء المساواة الكاملة مع الرجل، إلاّ أن تلك الحقوق والحرّيـات عند تجسيمها على أرض الواقع ستبقى رهينـة التأويلات و الاجتهادات لأن الدستور هو نصّ متكــامل يؤخــذ على إطلاقه و يخضع لمنهجيّة الوحدة في القراءة، نظرا لترابط الفصول، و الكل في انتظــار انتصـاب المحكمة الدستورية وفقه قضــاء الحراكم عند تقديم الطعون أو النظر في دستورية القوانين.
تلك ملحوظــات سريعة اقتصرت على قراءة لبعض بنود الدستور الجديد و ليس هنــا مجـال التمحيص فيه و تحليله.
كلام كثير قيل فيـه من داخل الكتلة الحاكمة و خــارجها و من خبراء القــانون الدستوري، كلام فيه كثير من السلبية ويدخل بعضــه في إطــار المزايدات، فمن نصدّق من قــال إن هـذا الدستور "ولد ميّتا"؟ و من قــال حول مسألة تجذير الهوية العربية الإسلامية بالفصل المتعلّق بالتعليم "إن هــذا يعتبر يوما أسودا"؟ و بين من هلّل قائلا إنه أفضل دستور أخرج للنـــــاس؟
هي تجربــة و محطّة تــاريخية هامّة، تونس اليوم لها دستور جديد، وصفـه الخـارج بالدستور "الأكثر تقدّميّة في العــالم العربي" كلّف البلد الكثير من المــال و من الوقت، و المؤكد أنه دستور نشــأ و ولد في ظرفية سيــاسية استثنــائية مرّت و تمرّ بها البــلاد، ظرفية فرضت معـادلة داخلية و خارجية، و هــذا الدستور هو أبرز تعبير عنها، و خلافا لما يعتقده البعض، الدســاتير ليست بقوانين مقدّســة، و لا شيء يمنع من تعديلهــا و تصويب ما يطرأ عليها من شوائب كلّمــا تغيّرت المعادلة ...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق