من أرشيفي
الخاص في جريدة الصباح (5)
|
مقالات شهر ماي 2010
عبد اللطيف الفراتي
تونس/ الوسط/25/4/2014
بعد انقطاع تواصل شهرين نعود هنا لاستعراض مقالات صدرت لي في
جريدة الصباح الحبيبة التي كانت تجري وما زالت تجري في دمي ، فبعد انقطاع استمر 10
سنوات نتيجة طردي أسوأ طردة في 4 سبتمبر 2000، بقرار من رؤوف شيخ روحه المدير
العام الجديد، وبرغبة من أعلى مستويات السلطة التي كانت كتاباتي تقلقها، عدت
للكتابة مع 1 فيفري 2010 أي في ذكرى تأسيس هذه الجريدة العريقة، والتي يكفي فقط أن
نقول إن أعداد وافرة من كبار الصحفيين كانوا من خريجيها، فقد كان صلاح العامري
مؤسس الشروق من بين كبار محرريها، وكان صالح الحاجة أحد أشهر كتاب العمود ومؤسس
الصريح من بين الذين تتلمذوا معي علي أيدي الحبيب شيخ روحه والهادي العبيدي وعبد الجليل دمق والصادق بسباس
وغيرهم.
ولقد كانت عودتي للصباح ـ في رفض مطلق لموقع ضمن هيئة تحريرها
ـ بقصد رفع سقف الحرية في ما ينشر فيها، ومن هنا كنت أحد الذين استكتبوا كتابا
كبارا كان مغضوبا عليهم.
وللحقيقة ، وبقطع النظر، عن سلوكه المستحوذ اقتصاديا ، فإن صخر
الماطري ، الذي لم يكن قد جرى لي معه أي لقاء فعلي، قد دفع في اتجاه ضم عدد من
كتاب الرأي إقترحتهم على هيئة التحرير لعل أهم من أذكر منهم صلاح الجورشي واحميدة
النيفر ومحمد الكيلاني وغيرهم ممن كانوا ممنوعين من الكتابة في تونس.
ولعله يكفيني شرفا أن أكون في فترة مظلمة، أن أنجح في ضم عدد
من كبار الكتاب ليكتبوا بصراحة وجرأة
منقطعة النظير في تلك الفترة بلا رقابة مطلقا.
وفيما يلي المقالات التي صدرت لي خلال شهر ماي 2010 ، من ضمن
كل المقالات ، التي صدرت لي في تلك السنة بمعدل مقالين أسبوعيا.
وكان الصديق والزميل فيصل البعطوط مدير التحرير وبعد أن عرض علي خطة في الجريدة
عالية ، رفضتها معلنا اكتفائي بكتابة مقال أسبوعي، قد ألح علي بكتابة ثلاث مقالت
كل أسبوع ، وفي النهاية اتفقنا بصعوبة وتحت إلحاح صخر الماطري حسبما قال لي وقتها بكتابة
عمودين أسبوعيين.
وفي ما يلي مجموعة المقالات التي صدرت لي في جريدة الصباح (حبي
الأول والأخير في عالم الصحافة) خلال شهر ماي 2010، عسى أن تتاح لي الفرصة في وقت
قريب لنشر بقية المقالات التي صدرت لي في الأشهر الموالية:
بكل هدوء
هل من منقذ ؟
بقلم عبداللطيف الفراتي *
كنت أتنقل من قناة إلى أخرى ، وقد
تملكني الضجر، من أخبار الحروب والكوارث ،فالأخبار العادية على رأي الصحفيين ليست
أخبارا ولا تجتذب أحدا، وفجأة توقفت عند قناة فرنسية معينة.
وفي "براءة الأطفال" أخذت القناة
في وصف رضع وأطفال من السود من إحدى الدول الإفريقية ذات الأغلبية المسلمة يموتون
جوعا ، ويتضورون و في أحسن الاحتمالات بعضهم بثياب رثة لا تستر، والبعض الآخر بدون
ثياب ، معلقين بأثداء مترهلة لا تدر حليبا لأن الأمهات جوعى بدورهن.
مناظر تدفع للشفقة، الشفقة على
الأمهات والشفقة على الأطفال.
ويأتي المنقذ ،، الرجل الأبيض ، الرجل
الذي تسيل من بين أصابعه اليوروات الرنانة، يأتي عارضا حمل أولئك الأطفال من
جحيمهم اليومي إلى جنة الغرب ، الممتلئ الشبعان المكسو ،الذي يعيش الرفاهية.
يأتي "لشراء" أطفال في سن
الزهور يحملهم من أجل التبني في تلك الدول التي، لم تعد تنتج أطفالا. نزلت فيها
الخصوبة إلى ما لا يضمن فيها التجدد
الطبيعي، ورفضت نساؤها الحمل والولادة والتربية، خوفا على مسيرة مهنية أو مسيرة
سياسية. ورفض رجالها تحمل مسؤولية تولي الإنفاق على أجيال جديدة. ولكن تأتي اليقظة
عندما يفوت الأوان. فيقررون التبني ولكن هيهات.
فالبلدان خاوية على عروشها، ولا أحد
عنده الكفاية من الأبناء ليضحي بواحد أو اثنين.
وهناك مخزون من الأطفال،
جاهزين"للإهداء" أو على الأصح للبيع "خشية إملاق".
ولكن هذا المخزون يوجد في بلدان
إفريقيا بالذات حيث يعشش الفقر نتيجة السياسات الخاطئة للحكومات.
يحمل الطفل ، إلى الخير والرفاهية،
تاركا وراءه الفقر والجوع.
ولكن من الأسماء يتبين أنها أسماء
مسلمين ،، يحملون إلى بلاد المسيح، فينشئون على الفطرة على دين دولة الاستقبال ،
مسيحيين تاركين دينهم أو دين آبائهم ، الدين الحق، كما حدث لباراك أوباما ، وباراك
هي التحريف باللغة السواحلية السائدة في كينيا وشرق إفريقيا لاسم مبارك باللغة
العربية، وبوضوح فباراك ليس كلمة عبرية ، وقد تكون كذلك لكنها هناك كلمة باللغة
السواحلية، المتأثرة ، في أصولها باللغة العربية ، أيام كانت سائدة مع العرب الذين
جاؤوا لإفريقيا وأقاموا إمبراطورية كاملة عاصمتها مومباسا ومرجعيتها تعود لعمان
على الخليج العربي وبحر العرب حيث أقيمت إمبراطرية امتدت من جنوب إفريقيا وجزر
القمر والموزمبيق وكينيا وأوغندا حتى القرن الإفريقي وطانجنيقا وزنجبار..
وفي ما تزداد أعداد المسلمين ونسبتهم
إلى مجموع عدد السكان إفريقيا بالوافدين
الجدد عن وعي واقتناع لجاذبية هذا الدين الحنيف ، والملائم مع الطبيعة البشرية على سليقتها، يحاولون اليوم
أن يسحبوا الأطفال الصغار لينصروهم، فيصبحون وقد غادروا دينهم الذي نشئوا عليه ،
أو ما زالت تنشئتهم لم تكتمل.
لست من المتعصبين ، ولن أكون كذلك في
يوم من الأيام ، ولكني أيضا لا يمكن أن اقر أبدا
بأن يحول آخرون عن دين آبائهم، في غفلة منهم وهم صغار غير عاقلين أو رشدا
لا يفقهون ، وإذا كانت حرية العقيدة مبدأ من أهم مبادئ حقوق الإنسان ـ وأنا أول من
ينادي به ـ فليس لأحد أن يستعمله بهذه الطريقة الملتوية." إن الله يهدي من
يشاء" ولكن إعطوهم على الأقل فرصة للاختيار ، فلا إكراه في الدين.
وسؤالي لهذه الدول التي ترعى الإسلام
وتبني المساجد ، والتي تتمتع بفوائض كبيرة أنعم بها الله عليها ، أليس في ذلك
المال حق للسائل والمحروم ، عبر استثمارات تقلل من الفقر ، وتمنع الناس من "
بيع أبنائهم المسلمين" ، وعبر معونات مباشرة لكل الذين بسبب الفقر
و"خشية إملاق" لا يتورعون في رؤية أبنائهم يذهبون إلى غير دينهم.
المسؤولية جماعية ، ومسلمو إفريقيا
بالخصوص حيث الفقر المدقع يطلقون صرخة مدوية لإنقاذ أبنائهم من التضحية بهم بوعي
أو بلا وعي.
لأضيف فقط ،، إن ذلك فرض عين لا فرض
كفاية.
بكل هدوء
انتخابات السودان،، ماذا بعد ؟
بقلم
عبداللطيف الفراتي *
..
واستقر الرئيس حسن عمر البشير على مقعد الرئاسة لولاية ثانية، في أول انتخابات
عرفتها البلاد منذ جاء إلى الحكم على ظهر دبابة في سنة 1989.
وقد
لا يهم كيف حقق الرئيس البشير انتصاره، وكما قال زعماء الجنوب السوداني بأن
الانتخابات ونتائجها قد أصبحت في ذمة التاريخ، والمهم هو استعدادهم للدخول في
حكومة ائتلاف.
غير
أن وراء الأكمة ما وراءها.
فكل
الجهات تقريبا التي دعيت لمراقبة سير الانتخابات، قد شككت في مصداقيتها، أو
مصداقيتها الكاملة، وذهب الأمر بمراقبي الاتحاد الأوروبي للإنسحاب، معلنين أن
الانتخابات وسيرها لم يكن متفقا مع المعايير المتعارف عليها لانتخابات نزيهة
شفافة.
وإذ
قدمت ترضية للجنوبيين بالإعلان أن مرشحهم للمنطقة الجنوبية قد نال 93 في المائة من
أصوات الناخبين في منطقته ، ليصبح رئيسا لتلك المنطقة، ما بدا معه الرئيس البشير
مسكينا مكتفيا بـ68 في المائة من الأصوات، فما هو الثمن الذي سيدفعه السودان مقابل
كل ذلك.؟
لا
ينبغي النسيان أن السودان مقبل على استحقاق هام في تاريخه كله، يتمثل في استفتاء
السودانيين الجنوبيين على أحد أمرين:
**
إما البقاء داخل السودان كجزء لا يتجزأ منه
**
أو الانفصال عنه وإقامة دولة ذات سيادة ومعترف بها على الساحة الدولية.
ولا
يخامر الكثيرون شك كبير أو صغير في أن
السودان سائر نحو استئصال جنوبه، وقطعه عن بقية الوطن، ولكن الشك يتحول إلى يقين
بعد الانتخابات الأخيرة وما سادها من تجاوزات خطيرة في المرحلة التي سبقتها ،
وخلال إجرائها، ثم بعدها وبمناسبة فرز الأصوات.
فالجنوبيون من أبناء السودان; وفقا للسائد بين مراقبين محايدين قد استنتجوا أنه لا مكان لهم في سودان موحد.
وساد
بينهم سؤال كبير ومحير، هل أن الحكم السوداني الحالي والمقبل بعد الانتخابات، يسعى
للحفاظ على وحدة السودان ، وإبقاء جنوبه ضمن العائلة السودانية المتعددة الأعراق
والأديان.؟
ولعل
الإنتخابات الأخيرة ومدى نزاهتها وشفافيتها كانت بمثابة الإمتحان الأخير للسلطة
السودانية ، وما إذا كان ممكنا مواصلة التعاون معها، والثقة بها، إلى حد تسليمها
مقاليد السودان بشماله وجنوبه؟
وسير
تلك الانتخابات ونتائجها المعلنة وما سادها خلال كل المراحل، يبدو أنه حسم الأمر،
وانتهى به إلى استنتاج أن الاستمرار غير ممكن.
وهناك
سؤال مطروح بإلحاح ،، هل إن السلطة السودانية (وعلى الأقل الرئيس البشير) راغبة في
أن يؤدي الاستفتاء إلى انفصال ، وطلاق بين الشمال والجنوب.
ويقول
مراقبون محايدون ، وهو ما رددت أصداءه صحافة الغرب ، إنه لا يستبعد أن يكون النظام
السوداني غير غاضب من احتمالات انفصال الجنوب المسيحي الوثني غالبا، حتى يتفرغ
لفرض تنفيذ أهدافه في إقامة الدولة الدينية ، وإحلال الشريعة في كل مناحي الحياة.
وهو
هدف لم يستطع النظام فرضه على غير المسلمين وبالتالي بقي إلى حد ما معلقا ينتظر
ساعة الإنجاز الكامل ، وربما سهل الإنفصال الجنوبي تحقيقه، "بإعادة الانسجام
إلى تركيبة المجتمع". وإن كان تحويل السودان ّإلى دولة دينية، ليس محل إجماع
السودانيين من المسلمين أنفسهم.
ولعله
من الغريب هذا الانتقال الذي شهده السودان ، من الدولة العربية اللائكية الوحيدة
مع لبنان إلى الدولة الدينية ، في ظل حكم حسن الترابي/ عمر البشير ، قبل انفصالهما
عن بعضهما ، نتيجة الخلاف على الحكم، ووضع عمر البشير لشريكه في انقلاب 1989 حسن الترابي في السجن، بعد أن
كان واحدا من أسس الحكم والمنظر الأوحد لسياساته وتوجهاته.
و من
هنا يبدو أنه لا مفر من انفصال ، متوقع ، بعد استفتاء جانفي المقبل، وهو انفصال تكون عملت كل القوى
بما فيها السودانية والحكومية بالذات على قيامه ، تنفيذا لاتفاق سابق ورغم المبدأ
المقدس للإتحاد الإفريقي بعدم المساس بالحدود الموروثة عن الفترة الاستعمارية .
ولعل
السؤال الذي يمكن طرحه هو : ما هي التداعيات المحتملة لمثل هذا الحدث المتمثل في
قيام دولة جديدة في منطقة تشكو من الفقر وقلة الاستقرار؟
أولا
إن النيل يمر عبرها ، فيضيف دولة جديدة للدول التي يمر منها، ومن 7 أو ثماني دول
يعبرها هذا النهر الذي يعتبر أضخم نهر في العالم سيزداد العدد بدولة أخرى، و هذا
النهر الذي يصب في منتهاه في السودان ومصر،
هل سيكون مستقبلا ـ بقيام دولة
جديدة ـ محل خلافات بشأن اقتسام مياهه التي تنال مصر حصة الأسد منها رغم أن منابعه
الرئيسية تقع في أثيوبيا.
ثانيا
إن إسرائيل لا بد إن تدس أنفها عبر هذه الدولة الجديدة في المنطقة، محاولة التأثير
فيها وتحقيق مكاسب إستراتيجية على حساب العرب.
ثالثا،
ما العلاقة التي ستقوم بين هذه الدولة والسودان أساسا ، ولكن بقية العرب أيضا، إن
الجامعة العربية في تحرك ذكي سبقت الأحداث وربطت علاقات وثيقة مع قياديي هذه
الدولة الناشئة غالبا ، وهو موقف عقلاني يندر أن نجد ندا له عربيا، ولعل للدول
العربية المؤثرة أن لا تنتظر أكثر مما انتظرت وتسارع لمد اليد ، فالسبق مهم في مثل
هذه الأحوال.
بكل
هدوء
ليوم الأحد 30 ماي 2010
ما هي تداعيات الأزمة الأوروبية على تونس؟
بقلم عبداللطيف الفراتي *
يبدو أن الولايات المتحدة التي كانت
وراء الأزمة المالية الإقتصادية الأكبر منذ أزمة 1930/1933 قد خرجت من عين
الإعصار، وبقدرتها على التكيف السريع ، والتعامل الذكي مع التطورات ، فإنها تكون
قد ودعت تداعيات الإنكماش الإقتصادي الذي عرفته، وتعيد الإرتباط مع نسبة نمو عالية
جدا للعام الحالي يتوقع أن تبلغ 3.5 في المائة وهي نسبة عالية بالنسبة لبلد متقدم.
ما شهدته أمريكا إذن هي هزة شديدة ناتجة
عن عدم سيطرة أجهزة التعديل على سوق انفرط عقدها وتخلت فيه على حد تعبير الخبير
التونسي أحمد الكرم عن الدور التقليدي للجهاز المالي في توفير السند اللازم للمسار
الإقتصادي للدخول في متاهات مضاربات اتجهت إلى تحقيق ربح سريع وكبير.
وما حصل في أمريكا هو إفلاس كثير من
المؤسسات البنكية والمالية والعقارية ، مع ما جر إليه ذلك من اضطرابات كبيرة، كانت
قابلة للعلاج.
عند تماثل الإقتصاد الأمريكي للشفاء ،
بعد تسجيل ما حصل في خانة الربح والخسارة ، كان المعتقد انه سيجر كقاطرة قوية
الإقتصاد الأوروبي ومعه العالمي، ولكن هاهي أوروبا تتخلف ، بل تصبح مهددة في وحدة
عملتها وفي مصيرها المتقدم.
في أمريكا انتهت الأزمة بإفلاس عدد
كبير من المؤسسات واستوعب الإقتصاد الأمريكي ذلك وهضمه، وانطلقت العربة من جديد،
أما أزمة 2010 في أوروبا فإنها من طبيعة أخرى.
ليست مؤسسات هي المهددة بالإفلاس بل
دول بكاملها، ودولة بالذات انهارت ، وهي كالغريق تبدو وكأنها تسعى لسحب غيرها
للقاع في غرقها.
اليونان بعد أن انكشف الغطاء، ظهر
أنها تعيش على وقع مديونية في مستوى 120 في المائة من الناتج الداخلي الخام (الحجم
الأقصى المسموح به وفق اتفاقيات ماستريخت الأوروبية 60 في المائة) ، وظهر أيضا أن
مستوى عجز الميزانية يقارب 14 في المائة ( العجز الأقصى المقبول 3 في المائة)،
معنى هذا أن على أثينا أن تسدد كأصل دين وفوائد فوق دخلها لمدة سنة، معناه أيضا أن
انحسار الثقة يفرض عليها لتحقيق ذلك أن تدفع نسب فائدة عالية جدا لتمويل
ذلك السداد، إلى حد ربوي، معناه كذلك إن موازنة الدولة لم تعد لها أي طاقة
على التوفير، وأنها في حاجة إلى عملية تنحيف قاسية.
فكان لا بد من اتخاذ قرارات تقشفية
ذات مذاق جد مرير ، مثل تجميد وحتى تخفيض المرتبات وجرايات التقاعد، ومثل زيادة
الضرائب وترفيع نسبها.
هذه القرارات اللاشعبية لم تكن
مقبولة، وأدت إلى تظاهرات وإضرابات لا تنتهي.
وإذ جاء المدد من الإتحاد الأوروبي
ومن المؤسسات المالية الدولية، ما أنقذ الدولة اليونانية من حالة كف سداد دفع
ديونها، فإن المراقبين يشكون في قدرة الإقتصاد اليوناني على استرداد عافيته على مدى
سنوات طويلة.
فكل من عملية تخفيف عبء المديونية ،
وخفض عجز الموازنة يتطلب تضحيات على مدى سنوات ، في بلد تعود على سوء التصرف
والحوكمة السيئة ( الحكم غير الرشيد) وغياب الشفافية ، والفساد المستشري وغيرها من
العناصر التي يصعب التحول عنها لأنها باتت أساس مسيرة مجتمع بكامله.
سقنا هنا مثل اليونان لأنه المثل
الأقصى ، ولكن أوروبا الجنوبية بكاملها من إسبانيا والبرتغال وإيطاليا كلها ترزح
تحت أعباء أكثر أو أقل حدة، وهناك من يضيف فرنسا هذا عدا الوضع السيء جدا لبلدان
مثل بريطانيا التي تركها العماليون على الحديدة كما يقول المثل وإيرلندا، ورومانيا
التي اضطرت لخفض الأجور بنسبة 25 في المائة دفعة واحدة.
تداعيات ذلك برزت وكما يجب أن تظهر،
في إصابة اليورو بوعكة ، هددت وما زالت تهدده حتى في وجوده.
فقد سجل انهياره أمام الدولار وعملات
أخرى.
تداعيات ذلك برزت أيضا في البورصات
العالمية ، ولكن خاصة الأوروبية .
وفي وضع طبيعي ، فإن الحكومات وبنوكها
المركزية لتصحيح الأشياء ، تقدم على تخفيض قيمة عملتها، غير أن اليورو ليس عملة
وطنية، بل إن الدول الستة عشرة في أوروبا التي قبلت الدخول في منطقته والتظلل بمظلته( 11 دولة من الإتحاد الأوروبي لم
تلتحق) ، فقدت السيادة على عملتها ولم يعد بإمكانها أن تصحح أوضاعها عن طريق
عملتها،فخضعت لاختيارات ليست اختياراتها ودفعت ثمنا غاليا لذلك.
باختصار، فإن اليورو قد فقد على مدى
10 أسابيع تقريبا حوالي 10إلى 15 في
المائة من قيمته أمام الدولار, أي إن التصحيح قامت به السوق ولم يكن اختيارا
ذاتيا.
وهذا الوضع يقطع مع التوجهات السائدة
التي كانت تريد أن تحافظ على قيمة العملة الأوروبية كأقوى عملة في العالم.
ما يهمنا هنا هو مدى تأثيرات الأزمة
اليونانية أساسا والأوروبية عموما علينا ،وهل لها من انعكاسات على أوضاعنا الإقتصادية
والإجتماعية ؟
للأمر وجهان:
الوجه الأول هو المتمثل في هبوط قيمة العملة الأوروبية
والوجه الثاني هو المتمثل في
ارتفاع في قيمة الدولار الأمريكي.
وعلى أهمية الإنهيار في قيمة اليورو
بالمقارنة مع الدولار، فإن ذلك الهبوط لم يمثل بالنسبة إلينا وللدينار التونسي سوى 2 في المائة للفترة ما بين 11 جانفي و21
ماي الماضيين. ولكن يمثل بالدولار ارتفاعا للعملة الأمريكية بما بين 10 و 15 ي
المائة.
وإذ إن كل انخفاض في قيمة عملة ما
يوازيه ارتفاع بالنسبة للعملة المقابلة ، فإن ذلك يفرز ميكانيكية معينة.
تهاود في أسعار المواد الموردة من
جانبنا باليورو، وارتفاع في أسعار المواد الموردة من طرفنا بالدولار.
ولما كانت معاملاتنا في غالبها تجري
باليورو باعتبار أن حوالي 80 في المائة من تجارتنا الخارجية تتم مع أوروبا، فإن
بلادنا في المحصلة ستستورد البائع بصورة أرخص ولو قليلا، ومما يضاعف هذه الإستفادة
أننا نستورد كثيرا مواد أولية أو تجهيزات أو نصف مصنعة ، لنعيد تصديرها.
ولكن وبالمقابل فإن صادراتنا بحكم
انخفاض اليورو ، ستتكلف أغلى لدى المورد الأوروبي .
ولكن العكس صحيح بالنسبة للمعاملات
بالدولار المرتفع، غير أن المبادلات التونسية بالدولار لا تكاد تذكر، ولذلك فإن
أثرها ليس كبيرا.
على أن السائح الأوروبي والمتعامل
باليورو سيضطر لدفع يوروات أكثر عندما ينتقل لبلادنا، ولكن أيضا للبلدان المنافسة
لتونس.
ومهما يكن من أمر فإن السياسات
التقشفية الأوروبية عموما ، وتجميد الأجور أو حتى تخفيضها ستصيب بالضرر النشاط
السياحي ، وهو عادة النشاط الأكثر هشاشة.
غير أن ارتفاع سعر الدولار وانخفاض
سعر اليورو له انعكاسات أخرى لا ينبغي إغفالها وهي المتمثلة في سداد المديونية
وفوائدها، ومن هذه الناحية فإن تونس مستفيدة من هذه التقلبات بين العملات وباعتبار
الإنخفاض في اليورو فإن بلادنا ستجني من وضع قائم وهو أن حوالي 57 في المائة من
المديونية التونسية محررة باليورو، ما يعني أن تونس ستدفع يوروات أقل لنفس حجم
المديونية المسددة.
ولعل المؤمل أن لا تدوم هذه الأزمات
طويلا ، حتى لا تؤثر على مدى أطول على انتعاشة بدأت تلوح في الأفق.
*رئيس التحرير الأسبق
مقال مخصص ليوم الخميس 3 جوان 2010
بكل هدوء
ساحة للإنتاج والبث التلفزيوني
بقلم عبداللطيف الفراتي *
أمر يوميا من أمام مصحة التوفيق التي أراد الرئيس السابق بورقيبة أن
يسميها مصحة المواساة تقليدا لمصحة كانت
تحمل هذا الإسم أيام إقامته في القاهرة.
ثم أعرج على وزارة الخارجية ، وبعدها
من البناية التي كان مقررا أن تؤوي جامعة الدول العربية قبل انتقال الجامعة للقاهرة،
والتي أهدتها الدول العربية إلى تونس فقررت جعلها مقرا للتلفزيون.
كان ذلك في سنة 1990 في خضم فترة
اتخاذ قرار النقل، وكان وزير الخارجية أيامها هو السيد عبدالحميد الشيخ ، وهو رجل
لطيف المعشر ، متواضع ، ولكنه كان عقلا استراتيجيا ومرجعا سياسيا، وقد تأثر مثل بقية التونسيين لذلك
الإنتقال ، بعد أن ظننا أن الدول العربية
استقرت بالجامعة في تونس.
وأذكر أن قرار النقل وقع اتخاذه في
اجتماع انعقد في بيت الشيخ صباح الأحمد وزير الخارجية الكويتي ونائب رئيس مجلس
الوزراء بسكرة، وقد خرج الوزير الكويتي صحبة الوزير العراقي وأعتقد أنه كان في ذلك الوقت طارق عزيز ليعلنا عن اتخاذ قرار
عودة الجامعة إلى القاهرة.
بعد شهرين أو ثلاثة كان الجيش العراقي
يجتاح الكويت.
وكترضية لتونس اتفق الوزراء على إهداء
بلادنا المقر الذي كان بصدد البناء، وهو بناء توقف وقتها بسبب قلة المتاح من المال
، وعدم دفع الدول الأعضاء حصصها.
بعد 20 سنة إذن اكتمل البناء ، وأصبح
يسر الناظرين، وأسند كمقر للتلفزيون.
وعندما تقرر إهداء المقر للتلفزيون
كانت لتونس قناة واحدة،وكانت أطباق الهوائيات عبر الأقمار الصناعية في بداياتها.
وكان عدد القنوات قليلا جدا.
اليوم وبعد 20 سنة أصبح عدد القنوات
العربية يعد بالمئات، وعربيا وفي ما عدا
عرب سات أنشأت مصر قمرا صناعيا ضخما من الجيل الثاني أو الثالث ، وأقامت مدينة
للإعلام ، تتولى إنتاج الأفلام ، أو كراء فضاءات للإنتاج من الأمريكي حتى الفرنسي،
مرورا بالعربي .
ولقد تطور الأمر لاحقا فقامت قناة
الجزيرة وباتت دبي ساحة بث لعديد القنوات مع القاهرة، وأنشأت دول عديدة وحدات
إنتاج تعمل مثل خلايا النحل من دمشق إلى بيروت إلى عمان إلى الكويت إلى دبي إلى
أبوظبي وربما غيرها مما نسيت.
وتبقى مصر متصدرة موكب الإنتاج
والتصدير، وتعتبر صناعة السينما فيها من أكبر الصناعات تصديرا، بنما باتت القنوات
المصرية والغير مصرية التي تبث عبر النايل سات تعد بالمئات.
إذن أمر كل يوم أمام دار التلفزيون
التي كانت أصلا مقرا للجامعة العربية.
ومع المرور المتكرر ، أخذت تنبت في عقلي فكرة، ولماذا لا تستغل هذه المساحة
الشاسعة التي لا أعرفها للحقيقة من الداخل للإنتاج وللبث، ولماذا لا تتخذ قنوات
كثيرة قاعدة لها من تونس.
قبل الأقمار الصناعية، وقبل القنوات
التلفزيونية ، وكنت قد استلمت رئاسة تحرير الصباح الأولى في ربيع سنة 1988، فكرت
في تحويل الصباح إلى جريدة دولية ، على غرار ما كان موجودا وقتها متمثلا خاصة في
صحيفة الشرق الأوسط والقبس الدولي، وكنت اشتغل فيهما الواحدة بعد الأخرى مراسلا من
تونس.
كانت الجامعة العربية ما زالت متواجدة
في البلاد، وكانت لمنظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها مرتكزا في تونس.
شرعنا أيامها في عمل دؤوب ، من اجل
تحويل الفكرة إلى واقع ، واشتغلنا ليلا نهارا ، وبموافقة الصحفي الكبير ذو الحس
المرهف الحبيب شيخ روحه ، فأصدرنا طبعة للجنوب وفتحنا مكتبا هناك ، وباتت كل
المنطقة مجالا يوميا لانتقال الصحفيين وتولى الحبيب الصادق عبيد وقتها تنشيط ذلك
المكتب الذي كان به حوالي 40 مراسلا عدا قسم للإعلانات والتوزيع. وكان مكتب آخر
للشمال على أهبة الفتح أيضا.
وأخذنا في اتصالات مع باريس لضمان
الطبع في العاصمة الفرنسية، حيث كانت الصباح أيامها توزع بشهادة الـم ن ب ب لا أقل
من 90 في المائة مما توزع الصحف التونسية في فرنسا . والزميل الملهم فيصل
البعطوط كان على علم ومشاركة في كل ذلك وقتها
وكان مفترضا أن يلتحق بهذا الجهد، ولكن فجأة توقف كل شيء.
لا علينا تلك قصة أخرى.
أما اليوم فهل لي أن أحلم ، بأن ما لم
يتحقق للصباح حتى تكون تونس( نعم تونس)
ساحة صحفية عالمية، يمكن أن يتحقق في المجال التلفزيوني ، فليست تونس أقل
من القاهرة أو دبي أو دمشق أو الدوحة خيالا وإرادة وقدرات وكفاءات.
يمكن أن يقع استغلال هذا الفضاء
الجديد، الذي لم أتعرف عليه من داخل ـ أقولها بصراحة ـ في دعوة المنتجين للإنتاج
فيه ، طبعا بمقابل، بل يمكن أن يستعمل أداة للبث ، كما يحصل مع روما ولندن ودبي
والقاهرة وغيرها.
إن الصناعة التلفزيونية والسينمائية
اليوم تعد أحدى أكبر 5 صناعات في العالم، فهي توفر الشغل ، وهي تضمن المداخيل ،
وهي تدفع الناتج الداخلي الخام، وهي تستقطب رؤوس الأموال والإستثمارات، وبأحجام
كبيرة، وهي تشغل قطاعات كاملة مثل تجارات النسيج والخشب والحديد والبلاستيك بل
أكثر من ذلك بكثير، ثم إنها عنصر من عناصر جلب العملات الأجنبية وبمقادير كبيرة.
أتمنى أن لا تكون تلك أضغاث أحلام،
وأن يلتقط أحد أطراف الخيط ، وأن يتحول الأمر من مجرد فكرة إلى حقيقة واقعة.
*رئيس التحرير الأسبق
إلى الأستاذ نورالدين عاشور مع التحية
والتقدير
مواضيع ليومي 9 و13 ماي 2010-05-05
بكل هدوء
الولاء لتونس..
ولتونس فقط
بقلم عبداللطيف الفراتي *
في هذا الزمن الذي اختلطت فيه الكثير
من الأشياء، وغابت أحيانا المقاييس التي نقيس بها، وتوارت عن الأنظار، يجدر أن
نتذكر من حين لآخر حقائق تبدو بديهية ولكنها ليست دائما كذلك.
وفي خضم التشويش الحاصل في الأذهان
يجدر أن نتوقف قليلا عند حقيقة ، لا بد أن تكون سائدة عند الجميع ، مهما افترقت
بهم السبل ، وتعددت، ومهما كانت المراجع الإيديولوجية التي ينتمي إليها الفرد منا.
هذه الحقيقة، هي التي تجمع عقدنا
جميعا، وتضعنا كلنا في نفس المسار، هي أنه لا ولاء إلا لتونس ،، قبل وبعد كل شيء ،
تونس فقط ، تونس وحدها، وبعد ذلك تأتي الإنتماءات.
إن ما يجمعنا هو هذا الوطن وأرضه التي
أنبتتنا فتربينا وترعرعنا على أديمها ، ونحن مدينون لها، ولذلك فليس لنا إلا أن
نكون قلبا وقالبا لها قبل أي شيء آخر، وعلى نقاء بلادنا الإثني والديني وحتى
المذهبي ، وهو نقاء لا نجد له مثيلا في أي دولة عربية أو مسلمة أو إفريقية ،
فالأغلب الساحق من أبناء هذه البلاد عرب عاربة أو مستعربة إلا القلة ، والغالب
الأعظم من المسلمين السنة المالكيين، على ذلك ورغم وجود أقليات بربرية حنفية
أباظية أو حتى مؤخرا شيعية ، ويهودية أو نصرانية محترمة كلها في تاريخها وعاداتها
وعقائدها، فإننا كلنا من التونسيين المنتمين إلى هذا الوطن ندين له بالولاء الكامل
دون غيره.
وحتى نثبت بعد ذلك انتماءاتنا المغاربية ،العروبية أو البربرية، المسلمة أو
الإفريقية أو المتوسطية وحتى الكونية ، فلا بد لنا من أن ننغرس في محيطنا المتنوع في تونسيتنا
وأن نتجذر فيه. عبر ولائنا لهذا الوطن،
الضارب في تعاريج التاريخ ، ومفاصله.
ولعل القانون التوجيهي للتربية بعد الدستور هو أكبر مصدر لإبراز الولاء لتونس
ففي فصوله الأولى حيث ينص على الأهداف الكبرى للنظام التربوي التونسي متمثلة في
"الهوية الوطنية التونسية ، والإنتماء الحضاري العربي الإسلامي "، في
اتجاه تحقيق غايات محددة ، نختار منها في ما يلي :" تمكين الناشئة منذ حداثة
عهدها بالحياة مما يجب أن تتعلمه حتى يترسخ فيها الوعي بالهوية الوطنية التونسية،
وينمو لديها الحس المدني والشعور بالإنتماء الحضاري وطنيا ومغاربيا وعربيا
وإسلاميا ، ويتدعم عندها التفتح على
الحداثة والحضارة الإنسانية" وبعد هذا
وقبله " تربية الناشئة على الوفاء لتونس والولاء لها"
تلك هي المبادئ التي اعتمدت كمرتكزات
للمستقبل ، عن طريق تربية ومدرسة في خدمة التوجهات العامة للبلاد. و كثوابت قارة.
ففي خطابه بمناسبة افتتاح الحملة
الإنتخابية الرئاسية في 13 أكتوبر 2009
تعرض الرئيس زين العابدين بن علي لهذه النقطة ، قائلا ما معناه "إن المسؤولية
تقتضينا العطاء السخي والمثابرة ، وقبل كل شيء الولاء لتونس ، وتونس وحدها، تحقيقا
للذات وتأصيلا للإنتماء لهذا الوطن..".
وبذلك فإن الولاء لتونس هو اليوم
وينبغي أن يكون مستقبلا، ثابتا من أهم الثوابت ليس في سياسة الحكومة فقط ، بل وفي
توجهات كل منا.
ولا بد هنا من التوقف عند أمرين اثنين
لترسيخ هذا الولاء اعتمادا على مقوماته:
أولا ومن التاريخ بكل أحقابه البعيدة والقريبة ، فإن علينا
كتونسيين أن لا ننكر على أحد تونسيته وذلك ليس اليوم فقط بل عبر التاريخ كله ،
بنبذ كل ما يمكن أن يعتبر تخوينا أو تكفيرا، إننا نعترف بأن حنبعل وسان أوغستان
وحتى الكاهنة وعقبة بن نافع والمعز لدين الله الفاطمي وبن خلدون والإمام سحنون
وابن الجزار وصولا إلى خير ا لدين
والبايات وبورقيبة مرورا بغيرهم هم نتاج
هذه الأرض القادرة على الإستقطاب والإستيعاب، وتلك عبقريتها.
ثانيا ومن التاريخ المعاصر والحديث ،
فإن الكفاح الذي خاضه التونسيون من أجل استقلال بلادهم واستصفائها من براثن
الأجنبي، الذي أراد السيطرة عليها وامتصاصها حتى النخاع، واستبدال شخصيتها لغتها
ودينها،والتضحيات التي قدمها أبناء هذا الشعب سواء بالأرواح أو بالحياة حتى
الفردية منها متمثلة في مقاساة السجون والمنافي ، كلها صنعت هذه الخاصية التونسية
التي نتمسك بها كثابت من ثوابتنا ، والتي تستدعي منا أن لا يكون ولاؤنا لغير وطننا
الذي نستظل بظله، ونعيش من خيره.
إن تونس لكل التونسيين ، هذه حقيقة
قائمة، ولكن تونس أيضا بكل التونسيين الذين يحملونها في قلوبهم التي لا تنبض إلا
لها.
· رئيس التحرير
الأسبق
بكل هدوء
من أجل إنقاذ المستوى
بقلم عبداللطيف الفراتي *
أيام الدراسة الإبتدائية وفي نهايتها،
كان الجميع يمرون بامتحانين اثنين يتوجان الحياة المدرسية في الإبتدائي : الشهادة الإبتدائة والسيزيام.
وكانت الشهادة الإبتدائية تصلح أساسا
لتفادي الخدمة العسكرية في الجيش الفرنسي، أما السيزيام وكان عبارة عن مناظرة
فعلية ينجح فيها المتقدمون بحسب المقاعد الشاغرة في الليسيات والمدارس الثانوية
فإنه هو الذي كان يفتح أبواب المستقبل
لمواصلة الدراسة.
وكان الحرص شديدا على اكتساب التلاميذ
منذ الإبتدائي الزاد المعرفي الكافي في مادتين أساسيتين هما اللغة الفرنسية
والحساب.
وكانت تعطى للغة الفرنسية أهمية كبرى
فلا نجاح إلا بإحراز 18 من 40 على الأقل في ثالوث يتمثل في الإملاء وفي الإنشاء
وفي دراسة النص.
كما كان الحصول على صفر في أي مادة من
المواد الثلاثة يساوي الرسوب، كما كان ارتكاب أي خطإ في الإملاء يؤدي لسحب 4 نقاط
من أصل 20 ما يعني الحصول على صفر بعد 5
أغلاط، ولذلك كان مستوى الفرنسية بعد الدراسة الإبتدائية أعلى منه اليوم حتى بعد
الباكالوريا أو الأستاذية.
وكان الحرص على ارتفاع مستوى اللغة أو
اللغات هو المفتاح للسيطرة على المواد الأخرى سواء كانت علمية أو أدبية.
فقبل الباكالوريا الفرنسية في الأقسام
النهائية ولليوم يجتاز التلاميذ في الأولى ( ما يوازي السادسة ثانوي عندنا)
امتحانا لا مجال فيه يشهد بمستوى معين للغة الفرنسية بالخصوص.
ولقد جاء وقت كذلك وإلى عهد قريب كان
فيه النجاح في سنوات الحقوق يتطلب النجاح في مادتين تعتبران رئيسيتين.
فلا مجال مثلا للنجاح في نهاية السنة
الأولى دون معدل 10 من 20 في مادتي القانون الدستوري والقانون المدني ، وكلاهما
مدخل للقانون العام أو القانون الخاص، فلا يمكن مثلا متابعة دراسة القانون التجاري دون دراسة العقود أو
الإلتزمات والنجاح في السيطرة عليهما تماما.
ثم إنه جاء زمن أصبح فيه النجاح يمر
عبر أعداد متفوقة في مواد ثانوية في أحيان قليلة ليست من القانون في شيء مثل
الإعلامية أو الإنقليزية أو غيرهما ، فيتخرج المرء وهو غير مسيطر على مواد قانونية
ضرورية بالنسبة له في حياته العملية والمهنية ، وذلك بفضل أعداد مرتفعة في مواد
غير قانونية وعلى ضرورتها فإنها ليست حاسمة في معرفة القواعد القانونية.
وليس عبثا أن اعتمد التعليم طويلا على
ضوارب مختلفة تمييزا لمواد في قلب الإختصاص.
فاللغة سواء عربية أو فرنسية أو
الإنقليزية هي أساس للقدرة على الإستيعاب، ولذلك فالمفروض أنه لا يمكن نجاح بدون
السيطرة الكاملة عليها، كما إن موادا بعينها ضرورية للقدرة على المتابعة ،
فالرياضيات مثلا باتت ضرورية لكل الإختصاصات بما فيها المشهورة بأنها ادبية ،
فالنقد مثلا وعلم الإجتماع وغيرهما كثير لا يمكن البروز فيها دون سيطرة على
الرياضيات ، والعبارة المشهورة هي أن القانون هو منطق حسابي ، ولذلك فلا عجب أن
يتفوق العلميون من خريجي الرياضيات في مادة القانون ويحرزون على المراتب الأولى.
إن معركتنا مع المستقبل هي معركة
تعليم ونجاح في تحقيق أعلى المكتسبات المعرفية العلمية،ومن هنا فإن على بلادنا إذا
كانت تريد لنفسها مكانا تحت الشمس أن تولي العملية التعليمية
لا كما ولا عددا فقط بل كيفا ونوعية الأهمية القصوى، لأن ذلك هو شرط النجاح
غدا وبعد غد ، في عالم تتسابق فيه الأمم على رفع مستويات التعليم فيها مجاراة
للبلدان الأكثر تميزا مثل الولايات المتحدة وبريطانيا والبلدان السكاندنافية
واليابان وحتى سويسرا وإيطاليا.
ورفع مستويات التعليم اليوم ليس ترفا
فكريا، لا عندنا ولا عند غيرنا، بل هو في صميم القواعد الرئيسية لبناء المستقبل ،
وتونس التي بنت نهضة تعليمية عريضة جدا قاعدتها، ووصلت إلى أعلى نسب التمدرس لفي
أشد الحاجة اليوم، لأن تتنبه إلى أن نسب المتعلمين العالية على أهميتها ليست كافية
، بل المطلوب منها لتكون في المقدمة كما كانت دوما تعليميا ، أن تبذل الجهد والمال
لرفع مستويات التعليم عبر خطة خماسية أو حتى عشرية تنتهي ببلادنا إلى شاطئ
السلامة. تذكر بالخطة العشرية الأولى سنة 1958 على يدي محمود المسعدي.
إن المثل الفرنسي الذي يبدو كقدوة لنا
لهو من اسوإ الأمثلة في العالم، ففرنسا عصية على الإصلاح وقل من وزراء
التعليم فيها من تمكن من إدخال الإصلاحات
التي تتطلبها طبيعة العملية التعليمية للتلاؤم مع المتغيرات في العالم ، فوزراء
التعليم الفرنسيين إما إنهم صرفوا عن مهامهم أو إنهم استقالوا منها
ابتداء من ألان سافاري زمن ميتران إلى الوزير العالم النابغة الليغر زمن جوسبين ، ولم يبق مستقرا في مقعده من الوزراء
إلا من قبل بالأمر الواقع وآثر السلامة بترك الحبل على الغارب، فأطال البقاء في
المنصب ، ولا إصلاح ولاهم يحزنون.
· رئيس التحرير
الأسبق
إلى الأستاذ نورالدين عاشور مع خالص التحية
والتقدير
فيما يلي مقال الأحد 16 ماي 2010ومقال
الخميس 20 ماي 2010
بكل هدوء
الإنتخابات البلدية وتداعياتها
بقلم عبداللطيف الفراتي *
انتهت الإنتخابات البلدية الرابعة
عشرة منذ الإستقلال والخامسة منذ تغيير السابع من نوفمبر بالنتائج المعلنة، وأتت
بعدها عمليات (انتخاب) الممثلين البلديين في الثمانية وسبعين مجلس بلدي عرفت
تعددية تمثيلية.
وإذا كان المنتخبون الممثلون للتجمع
الدستوري اطمأنوا على حالهم في 186 بلدية بلا منافسة حيث ارتقوا كلهم إلى
المستشارية ( هو لا مان) كما يقول المثل الفرنسي فإن الأمر لم يكن كذلك في تلك
البلديات التي عرفت منافسة عدة قائمات في الغالب وخاصة البلديات الكبرى، فقد كان
واجبا على الفائزين جميعهم أن يمروا بامتحان اختيار اعداد منهم للجلوس في اجتماعات
المجلس البلدي الجديد.
وإذا كانت المجلة الإنتخابية اقتضت
نجاح القائمات التي لم تعرف منافسة بأكملها ، وهذه كلها كانت من الحزب الحاكم،
فإنها حددت مقاييس معينة للنجاح في البلديات التي عرفت منافسة قائمتين أو أكثر.
واقتضت المجلة الإنتخابية في فصلها
154 في هذه الحال أن تنال القائمة التي جاءت في المرتبة الأولى من حيث أهمية عدد الأصوات على نصف المقاعد ، ثم
إنها تدخل في سباق مع القائمات المنافسة بطريقة النسبية مع اعتماد أكبر البقايا،
وليس هذا مجال شرح هذه الطريقة التي تعد الأعدل مطلقا خاصة عندما تأتي مصاحبة
للتصويت الأغلبي (نصف المقاعد للقائمة الأولى ترتيبا )، وربما توفرت فرصة أخرى
للدخول في التفاصيل، وفي هذا السباق فإن القائمات تتقاسم المقاعد الباقية بالنسبية
كما رأينا ، لكن دون أن تنال أي قائمة مهما كان عدد الأصوات التي حصلت عليها أكثر
من نصف تلك المقاعد (50+25 في المائة ) أي في الجملة 75 في المائة من المقاعد،
وتلك هي الثغرة التي مكنت الإرادة السياسية ممثلة في مقتضيات الفصل المذكور
أعلاه المعارضات من الحصول على مقاعد في
المجالس البلدية التي رشحت فيها قائمات ، بشرط أن لا تقل النسبة المتحصل عليها على
3 في المائة وهي العتبة الضرورية للإستفادة من هذا المقتضى.
إذن وإذا طرحنا البلديات التي لم
تترشح فيها المعارضات ) 186 بلدية) استصفتها قائمات التجمع الدستوري منفردة وحصلت
فيها على كل المقاعد ، فإن هناك في أقل
التقديرات إجراءات أخرى :
أولا في مستوى التجمع الدستوري الحاكم
الذي ينبغي عليه أن يعين بالطريقة التي يراها المستشارين المنتخبين والذين سيسحبهم
لتمكين المرشحين المعارضين من دخول تلك
المجالس وفقا لما رأينا مما يعود لهم من مقاعد.( القرعة)
ثانيا وفي مستوى الأحزاب أو القائمات
المعارضة من تعيين كل حزب أو قائمة من بين مرشحيه ووفقا لما عاد له من مقاعد
الممثلين له في المجالس الجديدة.
وهذه العملية مؤلمة وتكاد تكون جراحية
، فهؤلاء وعدديا استحقوا النجاح سواء لعدد الأصوات التي حصلت قائماتهم عليها وهي غالبا أعلى مما حصلت عليه القائمات
المعارضة لولا السقف الذي حدد لعدد المستشارين عن كل حزب مهما كان عدد الأصوات
التي حصل عليها.
وأولئك من المعارضين وبفعل القانون
الإنتخابي نجحوا ولكن لا بد من الإختيار العددي المناسب من بينهم.
ففي بلدية مثل العاصمة تونس التي تعد
60 مستشارا بلديا فإن 15 من المقاعد تذهب للمعارضات لتتقاسمها، وعلى هذا الأساس
فإن 15 منتخبا على قائمات التجمع الدستوري نجحوا ووجب سحبهم ، لترك مقاعدهم
للمعارضين ، هكذا اقتضى القانون واقتضت طريقة النسبية التونسية، وفي بلديات مثل
صفاقس أو سوسة التي تعد 40 مستشارا لكل منهما وجب على التجمع الدستوري سحب 10 من
ممثليه في كل واحدة منهما ليحل محلهم ممثلون للأحزاب المعارضة.
ومن المفروض أنه قد تم ذلك خلال
اليومين المواليين للإنتخابات بالإعلام
بالترتيب النهائي لقائمات كل حزب
في مركز الولاية، وهكذا يتم اعتماد عضوية من يستحق وفقا للقانون في المجلس
البلدي الجديد، وفي حالة عدم قيام رئيس القائمة بذلك فإنه يقع اعتماد القائمة
بالترتيب الواقع عند تقديم الترشحات.
وفي الأسبوع الموالي للإنتخابات وبعد
10 أيام على مرورها تجري عملية تحويل الصلاحيات ، وفي الأثناء يواصل رئيس البلدية
المتخلي تسيير الشؤون الجارية دون حق في اتخاذ القرارات التي يمكن أن تلزم
البلدية.
** تطور في القانون الإنتخابي بشأن
البلديات وفي التمثيلية:
-
ينبع هذا التطور من إرادة سياسية عميقة في تمكين المعارضات من الدخول
في الحياة الإجتماعية المحلية ذات السند
الدستوري ، - دون أن تكون وهذا ما أبرزته
النتائج الرسمية للإنتخابات على قدرة على ذلك من حيث عدد الأصوات المتحصل عليها ـ
-
بعكس الإنتخابات التشريعية حيث يتم اعتماد النسبية خارج إطار المنتخبين
بالطريقة الأغلبية المطلقة على القائمات في دورة واحدة ، أي بحصول انتخاب كل
المرشحين، ثم إضافة مقاعد مخصصة على حدة للنسبية، فإن الإنتخابات البلدية اعتمدت
ميكانيكية أخرى تقوم على إدماج النسبية في العملية الإنتخابية بالأغلبية ، (بعد
استصفاء 50 في المائة من المقاعد لفائدة الحزب المرتب أولا) بحيث يؤدي الأمر إلى
انسحاب أعداد من المترشحين للحزب الأول ترتيبا ( في هذه الحالة التجمع الدستوري
الديمقراطي) وصعود عدد من المعارضين بالنسبية.
-
على سخاء هذه الطريقة بقطع النظر عن نتائجها، فإنها تترك مرارة في
نفوس الذين تم سحبهم، من قائمات التجمعيين، وفي نفوس الذين لم يقع اختيارهم في
قائمات المعارضات ليصعدوا للمجالس الجديدة.
-
وفي ما عدا هذا فإن العملية كلها إيجابية ، فالمستشارون المعارضون
يمكن أن يقدموا دماء جديدة ، ويثروا الحوار الداخلي، ويا حبذا لو تكون الفرصة
مواتية لاختيار واحد منهم كنائب للرئيس في البلديات الكبرى حيث عدد المستشارين كبير.
· رئيس التحرير
الأسبق
بكل هدوء
الولاء والإنتماء
بقلم عبداللطيف الفراتي *
لعلني ومنذ عدت للكتابة في "
الصباح" لم أتلق من ردود الفعل ما تلقيته بعد كتابة المقال الذي خصصته
"للولاء لتونس وحدها"، فعلا كان المقال الذي كتبته حول التقاعد وضرورة الإسراع بالإصلاح ، والمقترحات التي
قدمتها ، قد نالت اهتماما، واتسم الإهتمام غالبا بالمعارضة ، ووصل حتى توجيه
الإتهام لي بالتذيل للسلطة، وهو أمر لا أدعيه، فضلا على أنني لم أتذيل قبلا لأحد ،
ولن أتذيل ، وأنني أنطلق في مواقفي من قناعاتي الشخصية، لا يهمني ما إذا كانت
متفقة مع مواقف السلطة ، أو غير متفقة.
ولكن المقال الذي سقته في عدد
الأحد 9 ماي في صفحة المنتدى، كان على ما
يبدو أبلغ أثرا ، وأثار جدلا بيني وبين من أعرفهم ومن لا أعرفهم، واتهمت بأني بذلك
الموقف ، قد عارضت مواقف معارض معروف، ولكني أبعد من أكون كذلك أو إني علمت بمواقف
مؤخرا تصب في هذا الإتجاه أو ذاك.
ولن أستعرض هنا مواقف ، من أيدوا ما
كتبت ، أو من انتقدوني فذلك حقهم، وواجب علي أن أسمع رأيهم بكل احترام وتقدير ،
فإني أعتقد أن مقولة فولتير تبقى خالدة ، وهي تنص على ما معناه " إني وإن كنت
أخالفك ، رأيك فإني مستعد للموت، دفاعا عن حقك في سبيل إبداء رأيك"، أو كذلك ما قاله الإمام
الشافعي " رأينا صواب يحتمل الخطأ ،، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب"، ومن هذه المنطلقات
فإني أعتقد أن المطلق لا وجود له وأنه ينبغي تنسيب الأشياء.
على أني أعتقد جازم الإعتقاد كذلك دون أن يمس ذلك في شيء ما سبق أن قلته أن
الأمر له ارتباط بحقائق ارتقت إلى مرتبة
العلم ، قد لا يكون علما صحيحا ، ولكن اتفق الناس بشأنه اتفاقا غالبا ساحقا.
وبعكس من يرى أن الولاء للمغرب العربي
أو للعروبة أو للوحدة العربية، أو حتى للإسلام أود أن أقول أن هذه انتماءات فعلا
بأكبر أو أقل قدرا من الإنتماء ، ولكن تعلمنا في العصر الحديث أن الولاء يكون لما
سمي بالدولة الوطنية، بقطع النظر عن الجنس أو العقيدة أو اللغة.
والدولة الوطنية كما تعرفها إحدى
الموسوعات هي الكيان كتنظيم سياسي مضافا إليه وملتصقا به وطن أي مجموعة من الأفراد
ينتسبون إلى رقعة جغرافية تضمهم تحت لواء تلك الدولة.
وبعبارة أخرى فإن الدولة الوطنية وفقا
للمفاهيم العصرية للتنظيم هي المصادفة بين مجموعة من المواطنين يتشكلون في وطن
ودولة تتمتع بالسيادة أي تقوم على عناصر الإقليم والمواطنين الذين تجمعهم مصلحة
مشتركة وينتظمون في مجال يتمتع بالسيادة ويقوم على مؤسسات سياسية وإدارية وتحده
حدود.
وبعكس الدولة الوطنية التي يمكن أن
تكون على درجة كبيرة من النقاء العرقي وحتى الديني كما يمكن أن تكون متعددة الأعراق والأديان وحتى
المذاهب ، فإن الإنتماء مهما كانت صيغته
لا يعرف حدودا، بل هو فوق الوطني ، ولكن لا يمكن أن يكون له ولاء خاص به
بالمفهوم الحديث للولاء.
من هنا جاءت مقولتي التي ضمنتها في
المقال المشار إليه ، وهو ولاء للدولة الوطنية التي هي تونس ، على اختلاف
انتماءاتنا.
ولا يذهبن الظن بأحد أن هذا الولاء هو
ظاهرة انعزالية ، بل إنه تحديد للأنا الجماعية، ليس على أسس الإنعزال ولكن على
أساس الوضوح.
ولذلك فإن الوحدة العزيزة على قلوب
المغاربيين وعلى قلوب العروبيين وأحيانا على قلوب الإسلاميين، إنما هي مطمح ، لا
ينتج ولاء ، فالولاء للوطن وحده ، وتبقى قضية العروبة أو المغاربية أو الإسلام أو
الإفريقية أو المتوسطية أو حتى الكونية هي قضية انتماء ، أكثر أو أقل ارتباطا
وقوة.
هذا كله ليس مقللا من شأن الوحدة ،
التي هي المطمح الأسمى في مظاهرها، والمطلوبة بقلوبنا وعقولنا.
ولكن وفي الأثناء فإن الوحدة سواء
كانت مغاربية ، أو عربية أو إفريقية ، أو إسلامية، وهي المطمح لا يمكن أن تنبني
إلا على أسس صحيحة.
أول هذه الأسس هو التوجه الشعبي نحوها
.
وثانيا وهذا مهم جدا أن الوحدة تقتضي
من الطرفين أو الأطراف التي تتجه إليها ، أن تضع قرارها على الطاولة ، كما تضع
الأطراف الأخرى قرارها على الطاولة للخروج بقرار مشترك ، إما قائم على موافقة كل
الأطراف ، أو موافقة بالتوافق ، أو موافقة بالأغلبية.
ولا يمكن بالتالي أن تقوم وحدة على أساس أن يفرد أحد أطرافها
بالقرار، ويكون على الباقي تنفيذ ذلك القرار، كما حصل في وحدة الجمهورية العربية
المتحدة، أو كما اعتبر البعض ما أسمي في حينه بوحدة العراق والكويت مباشرة بعد
اجتياح صدام حسين للكويت وإعلان التوحيد ، قبل التراجع وتحويل الأمر إلى استرجاع
محافظة النداء.و الوحدة العربية الوحيدة الناجحة في العصر الحديث هي وحدة الإمارات
العربية المتحدة المتواصلة منذ 40 سنة تقريبا.وإذ يطمح الكثير منا لقيام وحدة
مغاربية ، فيما يطمح آخرون لقيام وحدة عربية يأملون أن تكون شاملة ، بينما يتم الترويج
لفكرة جنينية بقيام اتحاد إفريقي ، فإنه لا بد من التنبه ، إلى أن الدولة الوطنية
مهما كانت وإذا قامت فإنها الوحيدة التي
تتطلب الولاء ، أما ما عدا ذلك فإنه لا يعدو أن يكون انتماء لا تترتب عليه أي
ترتيبات دولية ، وبالتالي فليس له من ولاء.
وفي الوقت الحاضر وباعتبار الواقع
المعاش فإننا نقول ونكرر أنه لا ولاء إلا لتونس ، وتونس فقط ، تونس وحدها.
*رئيس التحرير الأسبق
إلى عناية السيد رئيس التحرير المحترم
بكل هدوء
العوائق أمام قيام المغرب العربي
بقلم عبداللطيف الفراتي*
في عشاء نظمته جمعية الدراسات الدولية
التي أنشأها ورعاها على مدى عدة عقود ، رجل السياسة التونسي الرشيد إدريس قبل أن
يتوفاه الأجل منذ بضعة أشهر ، والتي يتولى رئاستها حاليا الأستاذ الجامعي خليفة
الشاطر، الخليفة النشيط كما يدل عليه اسمه ، بمناسبة مرور 30 سنة على أول اتفاق
بين تونس والسوق الأوروبية المشتركة آنذاك، كان المغرب العربي هو أهم الحاضرين ،
رغم أن الدعوة وجهت لعدة عشرات ولم تكن تشمل المغرب العربي.
وكما يحدث في كل المناسبات فإن المغرب
العربي كان قطب الرحى، خصوصا وأنه كان من بين المدعوين ممثلي بعض القطار المغاربية
الذين حضروا فعاليات انعقاد ملتقى رجال الأعمال المغاربيين الذي تزامن أو كاد عقده
مع هذه المناسبة.
ومن هنا فإن الحديث وما ألقي من
خطابات خلال حفل العشاءـ تجاوز العلاقات التونسية الأوروبية للحديث عن المغرب
العربي وعوائقه.
وكما هي العادة فقد حام الحديث ودار
حول كل شيء إلا السبب الأصلي للإعاقة المستديمة التي أصابت الوحدة المغاربية وهي
من وجهة نظرنا ـ وهو كلام لا يلزم أحدا ـ أي قضية الصحراء الغربية.
وما دمنا كمغاربيين غير قادرين على
مصارحة أنفسنا بالتشخيص الفعلي لمرضنا، فلن نكون قادرين على كتابة وصفة العلاج
اللازمة ، وبالتالي أعجز عن أن نكون في طريق الشفاء.
ولنا أن نلاحظ أننا كمغاربيين أشبه ما
نكون بالنعام الذي يخفي رأسه في التراب هروبا من مواجهة ما ينبغي أن يواجهه.
وكثيرا ما تذكر أسباب واهية للتخلف عن
بناء الإتحاد المغاربي ، لكن مع إهمال السبب الأصلي المتمثل في الصحراء الغربية.
أولا : كيف حال اتحاد الحدود مغلقة
بين طرفين رئيسيين من أطرافه يمثلان أكثر من ثلاثة أرباع سكانه، ففي حفل العشاء الوارد
ذكره آنفا ذكر ممثل مغربي أنه ومنذ استقلال المنطقة المغاربية قبل حوالي 50 سنة ،
فإن الحدود بين الجزائر والمغرب ، لم تبق مفتوحة إلا لمدة ست سنوات أي حوالي 12 في
المائة من الوقت المنقضي منذ الإستقلالات.
ثانيا : إن المبادلات البينية والتي
تعتبر المقياس أو المحرار الذي تقاس به حرارة العلاقات بين البلدان لا تمثل سوى ما
بين 2 و3 في المائة من مجموع التجارة الخارجية للمنطقة.
أكثر من ذلك فإنها أي تلك المبادلات
البينية في تراجع وانخفاض سنة بعد أخرى ، بينما تؤكد كل الدراسات أنها أي
المبادلات البينية تبلغ ما بين 20 إلى 35 في المائة في كل المجموعات الإقليمية
وإنها تتجاوز 50 في المائة ما بين بلدان الإتحاد الأوروبي.
أكثر من ذلك فإن النسبة أقل بكثير لو
لم تسجل المبادلات التونسية الليبية قفزة كبيرة في السنوات الأخيرة ، مكنت
المبادلات البينية المغاربية من تجاوز الصفر أو ما يحوم حول الصفر.
و في مثل هذه الظروف فللمرء أن يتساءل
إن كان الوعي سائدا إقليميا ، بالخسائر الكبرى التي تمنى بها الجهود السياسية
والإقتصادية لبلداننا المغاربية كل على حدة.
وتتفق الأجهزة المالية الدولية على أن
اللامغرب الموحد مسؤول عن :
1/ نقص في معدلات الناتج ونسبة النمو
بحوالي 2 في المائة.
2/ نقص في الدخل الفردي السنوي بما
لايقل عن 100 إلى 150 دولارا.
3/ انخفاض في فرص التشغيل المسجلة
بحوالي 100 ألف فرصة سنويا.
أي إننا نستعيض بقصورنا عن تحقيق
المغرب الموحد رفاهيتنا وتقدمنا بمزيد التخلف والفقر بدل الرخاء.
*رئيس التحرير السابق
بكل هدوء
الإتحاد الأوروبي .. في المنحدر
التداعيات المحتملة
بقلم عبداللطيف الفراتي*
أخذت كل مؤشرات من اقتصادية ومالية
تشع باللون الأحمر محذرة، من احتمال انحدار خطير في أوضاع الإتحاد الأوروبي، وإذ
يذهب البعض للتحذير من احتمال انفجار ، بين دول الإتحاد أو على الأقل لليورو، فإن
هزة شديدة وزلزالا يبدو متوقعا ، ولا مفر منه.
أول الأسبوع الحالي ، كان اليورو في
أشد حالات هزاله، ونزل إلى حدود ما كان عليه قبل 4 سنوات ، أي قبل أن يشهد سطوعه
في سماء العالم ، كعملة ملجأ.
وإذ ارتفعت قيمة الدولار فإن ذلك لا
يجد تفسيره في التوقعات المتفائلة باحتمالات نسبة نمو أمريكية في حدود 3.5 في
المائة ، ولكنه يدل أيضا على اهتزاز اليورو لا القوة الذاتية للدولار.
ما هي أسباب الأزمة الأوروبية؟ ثم هل
من مخرج منها؟
يختلف المحللون بشأن أسباب ما تمر به
أوروبا ، ولكن الملخص هو أن دول أوروبا عاشت طويلا فوق إمكانياتها دون أن تعمد إلى
التصحيح وفي الوقت المناسب، واعتمدت سياسات هروب للأمام بشأن عجز الموازنات ، وحتى
عجز موازين المدفوعات، بحيث إن اليورو الذي أريد له أن يكون الجامع بين 16 دولة
منخرطة في الإتحاد الأوروبي ، بات كتلة شد للوراء، وعبئا على أعداد من الدول.
ففي دولة مثل اليونان حيث ظهرت أول ما
ظهرت الأزمة، اعتبر المحللون اليورو عامل ضرر كبير، فالدول تعمد عادة عندما تختل
موازناتها خاصة الخارجية إلى تعديلات في قيمة عملتها لدفع الصادرات والحد من
الواردات وتشجيع السياحة وإعادة سداد الديون إلى حجم معين مرتبط بقدرة الإقتصاد،
ولكن في حالة اليونان فإن شيئا من ذلك لم يحصل ، وإذ أبقي اليورو على قيمته فإن
الإختلال بقي وسيبقى كبيرا لا قدرة عليه ، طالما إن
اليونان داخل منطقة اليورو، وقد تنازل على أجزاء من سيادته كدولة.
لكن اليونان ليست إلا كاشفا للعورات
الأوروبية، فمنه انطلقت الأزمة التي أساسها إختلالات اقتصادية اجتماعية كبيرة ،
ومديونية فوق طاقة المواجهة، وتسيب صعب على اليونان وحده الوقوف أمامه، ولكن ظهر
أن نفس الإختلالات بأكثر أو أقل حجما مسيطرة في البرتغال وإسبانيا ورومانيا
وغيرها، وكان لا بد من الدواء المر نفسه، وعملية تنحيف كبيرة للمديونية والعودة
للعيش وفق الإمكانيات الفعلية،ما يعني وهو ما عمدت أو ستعمد إليه الدول الأوروبية
متمثلا في سياسات تقشفية حادة، منها تخفيف الإنفاق الحكومي، وتجميد الأجور لمدة
ثلاث سنوات ، إن لم يكن تقليصها مثلما حصل في رومانيا بنسبة 25 في المائة لأجور
العاملين و15 في المائة لرواتب المتقاعدين، وكلاهما منخفض جدا أصلا.
هذه الإجراءات التقشفية طالت أو ستطال
اليونان وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا العظمى وإيرلندا وربما ألمانيا
وغيرها.
ماذا يعني ذلك عمليا ؟
إنه يعني تقليص القدرة الشرائية، ما
يؤثر سلبا على الإستهلاك دينامو التنمية ، ولذلك فإن أوروبا التي كانت تقدر أن
العام 2010 هو سنة المعافاة ، لن تحقق في أحسن التقديرات نسبة نمو في حدود، 0.5 في
المائة لن تكون كافية للإنتعاشة المأمولة ، هذا إذا لم تكن نسبة النمو سلبية مثل
العام 2008 أو 2009، ولن يمر ذلك دون اضطرابات اجتماعية عميقة.
ولا يبدو أن أوروبا بسبب مشاكل هيكلية
، ستستفيد من عودة الإنتعاشة الأمريكية ( تقديرات نسبة النمو للعام 2010 ما بين 3
و3.5 في المائة) ، بل ربما غرقت في انكماش لا مخرج منه في أفق منظور.
سؤال مطروح: هل سيؤثر وضع اقتصادي
أوروبي بهذه الحال على بلداننا المغاربية ، ومن البلدان العربية تلك التي تربطها
بالإتحاد الأوروبي اتفاقات للشراكة والتبادل الحر، وتتجه غالب معاملاتها وصادراتها
من السلع والخدمات إلى الإتحاد الأوروبي.
لقد أمكن لتونس مثلا أن تتجاوز أزمة
2008 /2009 بسلام وبأخف الأضرار، فهل هي مؤهلة ومسلحة لتجاوز الإزمة القادمة
والخروج من تداعياتها دون ضرر؟
· كاتب صحفي محلل
سياسي
هذا المقال لعدد يوم لخميس 27 ماي
2010-05-21
بكل هدوء
ما هي آفاق المتقاعدين
بقلم عبداللطيف الفراتي*
الكثير من الناس ممن بلغوا ما يسمى
بالفرنسية السن الثالثة ، أي ما بعد الستين ، أو حتى الخامسة والستين، يطيرون فرحا
، لأنهم سيتعطلون عن العمل، فيحلو لهم النوم صباحا حتى ساعات متقدمة ، ويصابون بمرض يدعى
"الفراغ" L’osivité،
ويقضون ساعات نهارهم إما أمام التلفزيون
أو في لعب الورق أو في الجلوس في المقاهي ، والقلة ممن يطالعون الصحف أو الكتب.
ولكن فئة أخرى خاصة من الكوادر العليا
والمثقفين ، لا يطيقون الابتعاد عن النشاط ، فتجدهم إما يعملون في مؤسسات بصفة
قانونية ، وخطيرة بالنسبة لهم وبالنسبة لمن يستخدمهم منذ القوانين التي صدرت في
الثمانينيات وتمنع استخدام المتقاعدين بدعوى مجابهة البطالة، أو يفتحون باتيندة
،كما تكاثر الأمر يقدمون خدماتهم خاصة في مجال القطاع الثالث ، معتمدين على فواتير
فيدفعون الأداء على القيمة المضافة ويقدمون شهريا وسنويا حساباتهم للمصالح
المعنية.
وللأسف ومن المحيط الذي أعيش فيه
ألاحظ بأنه لا المصالح الإدارية المعنية ولا الجمعيات قادرة على القيام بالإحاطة
بهؤلاء المتقاعدين.
ولقد جاء وقت في بدايات الاستقلال
أيام كان مؤمل الحياة لا يتجاوز 6 4 سنة ، كان المتقاعد سريعا ما يغادر هذه الدنيا
، ولكن أمام ارتفاع المستوى المعيشي والرعاية الصحية ، فمؤمل الحياة في تونس وإن
لم يبلغ مستواه في أوروبا وأمريكا
واليابان فإنه بات فوق السبعين ، ولذلك فإن السائد اليوم هو أن يعيش المتقاعد
حوالي 15 سنة في المعدل بعد تقاعده، وطبعا هناك من يعيشون أكثر.
ولن نتحدث هنا عن العبء المالي
لصناديق التقاعد ، التي لم تأخذ الأهبة لمواجهة هذه الحال في الوقت المناسب ، فذلك
شأن آخر سبق أن تعرضنا إليه وربما عدنا في مناسبات قادمة، ولكن سنتطرق هنا للوضع
الاجتماعي للمتقاعدين، وكيفية الاستفادة من عطائهم بعد التقاعد ، وعدم تركهم
للفراغ القاتل، وتلك ليست مسؤولية فردية للمتقاعدين ، بقدر ما هي مسؤولية جماعية
للمجتمع ككل.
في الدول المتقدمة لم يعد المتقاعد
مشروع "ميت"مع تأجيل التنفيذ، يقضي بقية سنوات عمره في انتظار المجهول
المعلوم، بل بات عنصرا منتجا فاعلا سواء بمقابل، أو بالتطوع للأعمال الاجتماعية.
غير أن هذا يتطلب في الغالب التنظيم
سواء عن طريق السلطة وأجهزتها أو عن طريق جمعيات المجتمع المدني.
وفي ما عدا الأنشط والأقدر على تولي
أمر أنفسهم بأنفسهم، ومن لهم القابلية للاشتغال وهؤلاء هم غالبا من الكوادر
والإطارات العليا، والذين يقدرون على العمل لا فقط بدنيا ولكن وأيضا من حيث قدرتهم
على تدبير أمورهم بأنفسهم، فإن البقية ، ولتجنب السقوط في مهاوي الفراغ القاتل
،والتعطل ، والهروب إلى المقاهي أو ملء وقت الفراغ بما لا يعني، في حاجة لمن يأخذ
بأيديهم ويفجر طاقاتهم.وفي وقت نجد فيه أن الفرد في ألمانيا يشتغل حتى سن الخامسة
والستين ولا ينال تقاعده إلا بعد تلك
السن، وهو أمر في طريق المعالجة ، بالتوجه نحو رفع سن التقاعد إلى 67 سنة على
الأقل ، تبعا لارتفاع معدلات مؤمل الحياة إلى ما فوق الثمانين عاما،لا بد أن يجري
التفكير عندنا للعمل على التأقلم مع ارتفاع معدلات مؤمل الحياة ، حتى لا يبقى
الناس للضياع القاتل ، وبما يخفف العبء عن صناديق اجتماعية تئن تحت وطأة عجز
متفاقم ، لا يمكن أن يتواصل ، وإلا أصاب صناديقنا الإفلاس بحيث تصبح عاجزة عن صرف
جرايات التقاعد لمستحقيها. ولكن وفي الأثناء فإنه بات واجبا إعطاء الاهتمام اللازم
للأمر ، لتغطية الفارق من سنوات الحياة بين التقاعد وآخر الفترات ، بما يملأ على
الناس وقتهم ، وبما يفيد المجتمع ، تأجيرا أو تطوعا.وإذ تدل الخطة الخماسية
الجديدة التي تصادف سنوات الولاية الرئاسية الجديدة على أن بلادنا في طريقها إلى إيجاد حلول جذرية
لقضية البطالة وخاصة بين حاملي الشهادات العليا
في نهاية 2014 أو بعدها بقليل، فإن التعلل مستقبلا بتفريغ فرص عمل للشباب
تبدو وكأنها مبررا خارج إطار الزمن.
· رئيس التحرير
الأسبق
إلى عناية السيد الأستاذ رئيس التحرير
المحترم
مع صادق التحية وكبير التقدير
بكل هدوء
حرية أكبر للصحافة
بقلم عبد اللطيف الفراتي *
تحت تعليمات ملحة من قبل أجهزة
الإتحاد الأوروبي في بروكسيل ، أقدمت الدول الأوروبية تباعا على إقرار تشريعات
لفائدة حرية الصحافة ، تقوم على عدم مساءلة الصحفيين عن مصدر أخبارهم ، وعدم
عقابهم إن لم يفصحوا عن تلك المصادر ، وأخفوها عن السلطة التنفيذية وحتى عن السلطة
القضائية.
وكانت آخر الدول التي صدق برلمانها
على هذا التشريع ، رغم عدم شعبيته في أوساط رجال السياسة من كل التوجهات ، فرنسا ،
التي قدمت وزيرتها للعدل رشيدة داتي المغربية الأصل، القانون الخاص بعدم ملاحقة
الصحفيين الذين يتكتمون على مصادرهم.
وفي البلدان الديمقراطية تقليديا وحيث
ترتقي الحريات الصحفية إلى مستوى "الدين" والمقدس ، ولا يحق لأحد المساس بها، كانت مصادر
الصحفيين غير محمية ، وكان المصدر إما مهددا بالعقوبات الجزائية إن ضعف الصحفي
أمام الخوف من العقوبات التي تصل حتى للسجن ، أو إن ضميره كان يملي عليه الكشف عن
نفسه لتجنيب الصحفي الوقوف أمام المحاكم بتهمة إخفاء مصادره عن السلطة القضائية.
وكم ذهب صحفيون للسجن أمام إصرارهم
على إخفاء مصادرهم ، في بلدان تضع حرية الإعلام في مقدمة مشاغل صحفييها، ولا يمكن
تصور التنازل عنها، وكم وقف المجتمع ومؤسساته وراء صحفيين اختاروا السجن على الكشف
عن المصادر التي مكنتهم من أخبار إما أنها أحرجت السلطة سواء كانت تنفيذية أو
تشريعية أو قضائية ، أو مراكز النفوذ الاقتصادي والاجتماعي، كما إن المصادر نفسها
كثيرا ما خيرت الكشف عن نفسها والخضوع للمحاكمة بدل رؤية صحفي حصل منها على
معلومات يحاكم ويدخل السجن.
وقد تخفى الصحفيون وفي كل مكان دوما
وراء سرية المصادر ، وكثيرا ما رفضوا الكشف عن مصادرهم ، ووقف المجتمع وراءهم ،
وأيد إصرارهم على رفض تقديم معلومات عن الذين مكنوهم من الأخبار المحرجة لأي سلطة
كانت ، ولكن بعض الصحفيين ممن وصفوا دوما بضعاف النفوس ضعفوا إزاء هذا المبدأ
"المقدس" وأعطوا معلومات حول مصادرهم وتسببوا في سجن أو محاكمة تلك
المصادر ، وعلى الأقل فقدان مراكزها التي تكون عالية في بعض الأحيان.
وقد استمرت المعركة حادة بين الصحفيين
الذين اعتبروا دوما أن حقهم في إخفاء مصادرهم ، هو من صميم الحرية الصحفية التي
ضمنتها دساتير بلدانهم ، و بين السلطات السياسية خاصة التي كانت تخشى دوما من
انتشار هذا الحق وما يفضي إليه من "فوضى" وقصور من القضاء في ملاحقة من
ينشر معلومات تكون في بعض الأحيان زائفة من وجهة نظر تلك الجهات أو موسومة بالقذف
والثلب دون إمكانية ملاحقة لا ناشريها ولا المصادر التي مدتهم بها.
غير أن جمعيات الناشرين الصحفيين
ورجال الصحافة والقلم صعدت من تحركاتها في السنوات الأخيرة لضمان حصانة مصادر الخبر ، وعدم تعريض الصحفيين
للملاحقة أو السجن بسبب إخفاء مصادر أخبارهم.
وقد أدى الأمر إلى مطالبة أجهزة
الدفاع عن حقوق الإنسان في الإتحاد الأوروبي برفع أي تهديد يوجه للصحفيين لفرض مد
أي سلطات بمصادر المعلومات التي ينشرونها، حتى تم إصدار تعليمات إلى مختلف الدول
الأعضاء لتطوير تشريعاتها في اتجاه توفير حصانة للصحفيين ، ولمصادرهم حتى لا
يتعرضوا للمساءلة بشأن ما ينشر من أخبار ومعطيات قد تكون محرجة للسلطات السياسية
أو مواقع النفوذ الاقتصادية أو الاجتماعية.
واضطرت البلدان الأوروبية وعدد أعضاء
الإتحاد الأوروبي حاليا 27 دولة إلى الخضوع لهذه التعليمات التي تأخذ صبغة
الإجبارية منذ صدورها ، وكان البرلمان الفرنسي قد أصدر تشريعا مؤخرا في هذا
المجال.
غير أن جدلا قويا حصل منذ صدور
القانون الجديد ، فالمعارضة الإشتراكية وحتى بعض أفراد السلطة صوتوا ضد القانون
على اعتبار أنه لا يقدم ضمانات كافية للصحفيين ، وأن الاستثناءات التي جاء بها
عديدة، وهي غير واضحة وتمثل تهديدا فعليا لحق إخفاء المصادر، ولكن ومن جهة أخرى
فهناك من يرى أن القانون الجديد يسمح بكل التجاوزات ويجعل فئة الصحفيين فوق
القانون ، ويمكنهم من حق لا تتمتع به أي فئة أخرى، كما إنه يسمح بكل التجاوزات ،
وحتى اختلاق الأخبار عبر اختلاق مصادر غير حقيقية.
ويعول الصحفيون من جهتهم على تجاوز
هذه الإخلالات المحتملة بزيادة ضوابط أخلاق المهنة، والتزام الصحفيين بها التزاما
كاملا.
وفي ما عدا أوروبا فإن بلدانا أخرى
عريقة في الديمقراطية وفي الحريات الصحفية ، لا تعترف للصحفيين بأي حق في إخفاء
مصادرهم ، وتعتبر أن مساءلة العدالة هي فوق كل الاعتبارات ، ومن بينها الولايات
المتحدة التي لا يشكك أحد في ديمقراطيتها وفي الحريات الصحفية المنتشرة فيها ، غير
أن التاريخ الأمريكي بما فيه الحديث والمعاصر حافل بأعداد الصحفيين الذين ذاقوا
مرارة السجون من أجل إخفاء مصادرهم ، ومكثوا فيها مددا طويلة دون أن يبوحوا بأسماء
مصادرهم أو يفصحوا عنها، إلا في الحالات التي أصابت فيها تلك المصادر "لوثة
" من ضمير فقررت من تلقاء نفسها الإفصاح عن هويتها ، وتحمل تبعات ذلك الإفصاح
من احتمالات سجن في أدنى الأحوال ، مع فقدان المراكز المهنية والعجز عن إيجاد بديل
لها ، لأن "جريمة" كشف أسرار أمر لا يغتفر في عالم الأعمال والسياسة.